تفسير سورة الذاريات
صفحة 1 من اصل 1
تفسير سورة الذاريات
الان وحصريا على الكينج سات تفسير سورة الذاريات
تفسير سورة الذاريات
المراد بالذاريات : الرياح التى تذرو الشىء ، أى تسوقه وتحركه وتنقله من مكانه .
فهذا اللفظ اسم فاعل من ذرا المعتل ، بمعنى فرَّق وبدّد . ومنه قوله - تعالى - : { واضرب لَهُم مَّثَلَ الحياة الدنيا كَمَآءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السماء فاختلط بِهِ نَبَاتُ الأرض فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرياح . . . } أى : تنقله وتحركه من مكان إلى آخر .
والمفعول محذوف ، و " ذروا " مصدر مؤكد ، وناصبه لفظ الذاريات ، أى : وحق الرياح التى تذروا التراب وغيره ذروا ، وتحركه تحريكا شديدا .
والمراد بالحاملات : السحب التى تحمل الأمطار الثقيلة ، فتسير بها من مكان إلى آخر .
والوقر - بكسر الواو - كالحمل وزنا ومعنى ، وهو مفعول به .
أى : فالسحب الحاملات للأمطار الثقيلة ، وللمياه الغزيرة ، التى تنزل على الأرض اليابسة ، فتحولها - بقدرة الله - تعالى - إلى أرض خضراء .
وهذا الوصف للسحاب بأنه يحمل الأمطار الثقيلة ، قد جاء ما يؤيده من الآيات القرآنية ، ومن ذلك قوله - تعالى - : { وَهُوَ الذي يُرْسِلُ الرياح بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حتى إِذَآ أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ . . . } وقوله - سبحانه - : { هُوَ الذي يُرِيكُمُ البرق خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِىءُ السحاب الثقال } والمراد بالجاريات : السفن التى تجرى فى البحر ، فتنقل الناس وأمتعتهم من بلد إلى بلد .
وقوله : { يُسْراً } صفة لمصدر محذوف بتقدير مضاف ، أى : فالجاريات بقدرة الله - تعالى - فى البحر جريا ذات يسر وسهولة ، إلى حيث يسيرها ربانها .
ويصح أن يكون قوله { يُسْراً } حال . أى : فالجاريات فى حال كونها ميسرة مسخرا لها البحر .
ومن الآيات التى تشبه فى معناها هذه الآية قوله - تعالى - : { وَمِنْ آيَاتِهِ الجوار فِي البحر كالأعلام } والمراد بالمقسمات فى قوله - سبحانه - { فالمقسمات أَمْراً } الملائكة ، فإنهم يقسمون أرزاق العباد وأمورهم وشئونهم . . . على حسب ما يكلفهم الله - تعالى - به من شئون مختلفة .
و { أَمْراً } مفعول به ، للوصف الذى هو المقسمات ، وهو مفرد أريد به الجمع ، أى : المقسمات لأمور العباد بأمر الله - تعالى - وإرادته .
وهذا التفسير لتلك الألفاظ ، قد ورد عن بعض الصحابة ، فعن أبى الطفيل أنه سمع عليا - رضى الله عنه - يقول - وهو على منبر الكوفة - : لا تسألونى عن آية فى كتاب الله ، ولا عن سنة رسول الله ، إلا أنبأتكم بذلك ، فقام إليه ابن الكواء فقال : يا أمير المؤمنين . ما معنى قوله - تعالى - : { والذاريات ذَرْواً } قال : الريح . { فالجاريات يُسْراً } قال : السفن ، { فالمقسمات أَمْراً } قال : الملائكة .
ومن العلماء من يرى أن هذه الألفاظ جميعها صفات للرياح .
قال الإمام الرازى : هذه صفات أربع للرياح ، فالذاريات : هى الرياح التى تنشىء السحاب أولا . والحاملات : هى الرياح التى تحمل السحب التى هى بخار الماء . . . والجاريات : هى الرياح التى تجرى بالسحب بعد حملها . والمقسمات : هى الرياح التى تفرق الأمطار على الأقطار .
ومع وجاهة رأى الإمام الرازى فى هذه المسألة ، إلا أننا نؤثر عليه الرأى السابق ، لأنه ثابت عن بعض الصحابة ، ولأن كون هذه الألفاظ الأربعة لها معان مختلفة ، أدل على قدرة الله - تعالى - وعلى فضله على عباده .
وقد تركنا أقوالا ظاهرة الضعف والسقوط . كقول بعضهم : الذاريات هن النساء ، فإنهن يذرين الأولاد ، بمعنى أنهن يأتين بالأولاد بعضهم فى إثر بعض ، كما تنقل الرياح الشىء من مكان إلى مكان .
قال الآلوسى : ثم إذا حملت هذه الصفات على أمور مختلفة متغايرة بالذات - كما هو الرأى المعول عليه - فالفاء للترتيب فى الأقسام ذكرا ورتبة ، باعتبار تفاوت مراتبها فى الدلالة على كمال قدرته - عز وجل - وهذا التفاوت إما على الترقى أو التنزل ، لما فى كل منها من الصفات التى تجعلها أعلى من وجه وأدنى من آخر .
وإن حملت على واحد وهو الرياح ، فهى لترتيب الأفعال والصفات ، إذ الريح تذرو الأبخرة إلى الجو أولا ، حتى تنعقد سحابا ، فتحمله ثانيا ، وتجرى به ثالثا ناشرة وسائقة له إلى حيث أمرها الله - تعالى - ثم تقسم أمطاره .
وقوله : { إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ } جواب القسم . و " ما " موصولة والعائد محذوف ، والوصف بمعنى المصدر . أى : وحق هذه الأشياء التى ذكرتها لكم إن الذى توعدونه من الجزاء والحساب والبعث . . . لصدق لا يحوم حوله كذب أوشك .
ويجوز أن تكون " ما " مصدرية . أى : إن الوعد بالبعث والجزاء والحساب لصادق .
وقوله : { وَإِنَّ الدين لَوَاقِعٌ } تأكيد وتقريرلما قبله . أى : وإن الجزاء على الأعمال لواقع وقوعا لا ريب فيه . فالمراد بالدين هنا : الجزاء ، كما فى قوله - سبحانه - { يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ الله دِينَهُمُ الحق } ومنه قولهم : " كما تدين تدان " أى : كما تعمل تجازى ، ومعنى وقوعه : حصوله .
ثم أقسم - سبحانه - قسما آخر بالسماء ذات الحبك فقال : { والسمآء ذَاتِ الحبك إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ } .
والحبك : جمع حَبِيكة ، كطريقة - وزنا ومعنى - ، أو جمع حِبَاك - كمُثُل ومِثَال - ، والحبيكة والحباك . الطريقة فى الرمل وما يشبهه . أى : وحق السماء ذات الطرق المتعددة ، والتى لا ترونها بأعينكم لبعدها عنكم .
ويرى بعضهم أن معنى ذات الحبك : ذات الخَلْق الحسن المحكم . . . أو ذات الزينة والجمال .
قال القرطبى : وفى الحبك أقوال : الأول : قال : ابن عباس : ذات الخلْق الحسن المستوى يقال ، حبَك فلان الثوب يحبِكُه - بكسر الباء - إذا أجاد نسجه .
الثانى : ذات الزينة . الثالث : ذات النجوم ، الرابع : ذات الطرائق . ولكنها تبعد من العباد فلا يرونها . الخامس : ذات الشدة . .
وقوله : { إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ } جواب القسم . وقوله : { يُؤْفَكُ عَنْهُ . . . } من الأفْك - بفتح الهمزة وسكون الفاء - بمعنى الصرف للشىء عن وجهه الذى يجب أن يكون عليه .
والضمير فى " عنه " يعود إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - أو إلى القرآن الكريم .
فيكون المعنى : وحق السماء ذات الطرق المتعددة ، وذات الهيئة البديعة المحكمة الجميلة . . . إنكم - أيها المشركون - " لفى قول مختلف " أى : متناقض متخالف ، فمنكم من يقول عن القرآن الكريم أنه : أساطير الأولين ، ومنكم من يقول عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - : إنه ساحر أو مجنون .
والحق أنه يصرف عن الإيمان بهذا القرآن الكريم الذى جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - من صرفه الله - تعالى - عنه ، بسبب إيثاره الغى على الرشد ، والضلالة على الهداية ، والكفر على الإيمان .
والتعبير بقوله : { مَنْ أُفِكَ } للإشعار بأن هذا الشقى الذى آثر الكفر على الإيمان ، قد صرف عن الرشاد وعن الخير صرفا ، ليس هناك ما هو أشد منه فى سوء العاقبة .
فهذا التعبير شبيه فى التهويل بقوله - تعالى - : { فَغَشِيَهُمْ مِّنَ اليم مَا غَشِيَهُمْ } قال الجمل : { يُؤْفَكُ } يصرف { عَنْهُ } عن النبى - صلى الله عليه وسلم - والقرآن الكريم . أى : عن الإيمان به { مَنْ أُفِكَ } أى : من صرف عن الهداية فى علم الله - تعالى - .
وقيل : الضمير للقول المذكور ، أى : يرتد ، أى : يصرف عن هذا القول من صرف عنه فى علم الله - تعالى - وهم المؤمنون .
ثم بين - سبحانه - سوء عاقبة المكذبين فقال : { قُتِلَ الخراصون الذين هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدين يَوْمَ هُمْ عَلَى النار يُفْتَنُونَ } .
والخراصون : جمع خرَّاص ، وأصل الخَرْص : الظن والتخمين ، ومنه الخارص الذى يخرص النخلة ليقدر ما عليها من ثمر ، والمراد به هنا : الكذب ، لأنه ينشأ غالبا عن هذا الخرص ، والمراد بالآية الدعاء عليهم باللعن والطرد من رحمة الله - تعالى .
أى : لعن وطرد من رحمة الله - تعالى - هؤلاء الكذابون ، الذين قالوا فى الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما هو منزه عنه . . . والذين هم { فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ } أى : فى جهالة تغمرهم كما يغمر الماء الأرض . فهم ساهون وغافلون عن كل خير .
فالغمرة : ما يغمر الشىء ويستره ويغطيه ، ومنه قولهم : نهر غَمْر ، أى : يغمر من دخله .
والمراد : أنهم فى جهالة غامرة لقلوبهم . وفى غفلة تامة عما ينفعهم .
وهذا التعبير فيه ما فيه من تصوير ما هم عليه من جهالة وغفلة ، حيث يصورهم - سبحانه - وكأن ذلك قد أحاط بهم وغمرهم حتى لكأنهم لا يحسون بشىء مما حولهم .
ثم بين - سبحانه - ما كانوا عليه من سوء أدب فقال : { يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدين } .
و " أيان " بمعنى متى . أى : يسألون سؤال استهزاء واستخفاف فيقولون : متى يكون هذا البعث الذى تحدثنا عنه يا محمد ، ومتى يوم الجزاء والحساب الذى تهددنا به؟
وهنا يأتيهم الجواب الذى يردعهم ويبين لهم سوء مصيرهم . فيقول - سبحانه - : { يَوْمَ هُمْ عَلَى النار يُفْتَنُونَ } أى يقع هذا اليوم الذى تسألون عنه وهو يوم البعث والحساب والجزاء . . . يوم تحرقون بالنار - أيها الكافرون - ، وتعذبون فيها عذاب أليما .
و " يفتنون " مأخوذ من الفَتْنِ بمعنى الاختبار والامتحان ، يقال : فتَنْتُ الذهب بالنار ، إذا أذبته لتظهر جودته من غيرها . والمراد به هنا : الإحراق بالنار .
وعدى " يفتنون " بعلى ، لتضمنه معنى يعرضون ، أو على بمعنى فى .
وقوله : { ذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ . . } مقول القول محذوف .
أى : هذا اليوم الذى يسألون عنه واقع يوم الجزاء . . . يوم يقال لهم وهم معرضون على النار : ذوقوا العذاب المعد لكم ، أو ذوقوا سوء عاقبة كفركم .
{ هذا } العذاب المهين ، هو { الذي كُنتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ } فى الدنيا ، وتقولون - على سبيل الاستهزاء والإنكار - للنبى - صلى الله عليه وسلم - ولأصحابه : { متى هذا الوعد إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } وبذلك نرى الآيات الكريمة قد أكدت بأقوى الأساليب وأحكمها ، أن يوم البعث والجزاء والحساب حق ، وأن المكذبين بذلك سيذوقون أشد العذاب .
وكعادة القرآن الكريم فى قرن الترغيب بالترهيب أو العكس ، جاء الحديث عن حسن عاقبة المتقين بعد الحديث عن سوء مصير المكذبين فقال - سبحانه - : { إِنَّ المتقين فِي . . . } .
المعنى : { إِنَّ المتقين } وهم الذين صانوا أنفسهم عن كل مالا يرضى الله - تعالى - .
{ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ } أى : مستقرين فى جنات وبساتين فيها عيون عظيمة ، لا يبلغ وصفها الواصفون .
{ آخِذِينَ مَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ } أى : هم منعمون فى الجنات وما اشتملت عليه من عيون جارية ، حالة كونهم آخذين وقابلين لما أعطاهم ربهم من فضله وإحسانه .
وقوله : { إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ } بمثابة التعليل لما قبله . أى : هم فى هذا الخير العميم من ربهم لأنهم ، كانوا قبل ذلك - أى : فى الدنيا - محسنين لأعمالهم ، ومؤدين لكل ما أمرهم به - سبحانه - بإتقان وإخلاص .
ثم بين - سبحانه - مظاهر إحسانهم فقال : { كَانُواْ قَلِيلاً مِّن الليل مَا يَهْجَعُونَ } أى كانوا ينامون من الليل وقتا قليلا ، أما أكثره فكانوا يقضونه فى العبادة والطاعة .
والهجوع : النوم ليلا ، وقيده بعضهم بالنوم القليل ، إذ الهجعة هى النومة الخفيفة ، تقول : أتيت فلانا بعد هجعة ، أى بعد نومة قليلة .
عن الحسن قال : كانوا لا ينامون من الليل إلا أقله ، كابدوا قيام الليل .
ثم مدحهم - سبحانه - بصفة أخرى فقال : { وبالأسحار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } والأسحار جمع سحر ، وهو الجزء الأخير من الليل .
أى ، وكانوا فى أوقات الأسحار يرفعون أكف الضراعة إلى الله - تعالى - يستغفرونه مما فرط منهم من ذنوب ، ويلتمسون منه - تعالى - قبول توبتهم وغسل حوبتهم .
قال الإمام الرازى ما ملخصه : وفى الآية إشارة إلى أنهم كانوا يتهجدون ويجتهدون ، ثم يريدون أن يكون عملهم أكثر من ذلك ، وأخلص منه ، ويستغفرون من التقصير ، وهذه سيرة الكريم : يأتى بأبلغ وجوه الكرم ويستقله ، ويعتذر من التقصير ، واللئيم يأتى بالقليل ويستكثره .
وفيه وجه آخر ألطف منه : وهو أنه - تعالى - لما بين أنهم يهجعون قليلا ، والهجوع مقتضى الطبع . قال { يَسْتَغْفِرُونَ } أى : من ذلك القدر من النوم القليل .
ومدحهم بالهجوع ولم يمدحهم بكثرة السهر . . للإشارة إلى أن نومهم عبادة ، حيث مدحهم بكونهم هاجعين قليلا ، وذلك الهجوع أورثهم الاشتغال بعبادة أخرى ، وهو الاستغفار . . . فى وجوه الأسحار ، ومنعهم من الإعجاب بأنفسهم ومن الاستكبار .
ثم مدحهم - سبحانه - للمرة الثالثة فقال : { وفي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ والمحروم } .
والسائل : هو من يسأل غيره العون والمساعدة . والمحروم : هو المتعفف عن السؤال مع أنه لا مال له لحرمان أصابه ، بسبب مصيبة نزلت به ، أو فقر كان فيه . . . أو ما يشبه ذلك .
قال ابن جرير بعد أن ذكر جملة من الأقوال فى المراد من المحروم هنا . والصواب من القول فى ذلك عندى : أنه الذى قد حرم الرزق واحتاج ، وقد يكون ذلك بذهاب ماله وثمره فصار ممن حرمه الله .
وقد يكون بسبب تعففه وتركه المسألة . وقد يكون بأنه لا سهم له فى الغنيمة لغيبته عن الواقعة .
أى : أنهم بجانب قيامهم الليل طاعة لله - تعالى - واستغفارا لذنوبهم . . . يوجبون على أنفسهم فى أموالهم حقا للسائل والمحروم ، تقربا إلى الله - سبحانه - بمقتضى ما جبلوا عليه من كرم وسخاء .
فالمراد بالحق هنا : ما يقدمونه من أموال للمحتاجين على سبيل التطوع وليس المراد به الزكاة المفروضة ، لأن السورة مكية والزكاة إنما فرضت فى السنة الثانية من الهجرة .
قال الآلوسى : { وفي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ } هو غير الزكاة كما قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما .
وقال منذر بن سعيد : هذا الحق هو الزكاة المفروضة ، وتعقب بأن السورة مكية . وفرض الزكاة بالمدينة . وقيل : أصل فريضة الزكاة كان بمكة والذى كان بالمدينة القدر المعروف اليوم . . . . والجمهور على الأول .
والمتأمل فى هذه الآيات الكريمة يرى أن هؤلاء المتقين ، قد مدحهم الله - تعالى - هذا المدح العظيم ، لأنهم عرفوا حق الله عليهم فأدوه بإحسان وإخلاص ، وعرفوا حق الناس عليهم فقدموه بكرم وسخاء .
ثم لفت - سبحانه - الأنظار إلى ما فى الأرض من دلائل على قدرته ووحدانيته فقال : { وَفِي الأرض آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ } . أى : وفى الأرض آيات عظيمة وعبر وعظات بليغة ، تدل على وحدانية الله وقدرته ، كصنوف النبات ، والحيوانات ، والمهاد ، والجبال ، والقفار ، والأنهار ، والبحار . وهذه الآيات والعبر لا ينتفع بها إلا الموقنون بأن المستحق للعبادة إنما هو الله - عز وجل - .
ثم لفتة أخرى إلى النفس البشرية ، قال - تعالى - : { وفي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ } .
أى : وفى أنفسكم وذواتكم وخلقكم . . . أفلا تبصرون إبصار تذكر واعتبار ، فإن فى خلقكم من سلالة من طين ، ثم جعلكم نطفة فعلقة فمضغة فخلقا آخر ، ثم فى رعايتكم فى بطون أمهاتكم . ثم فى تدرجكم من حال إلى حال ، ثم فى اختلاف ألسنتكم وألوانكم ، ثم فى التركيب العجيب الدقيق لأجسادكم وأعظائكم . ثم فى تفاوت عقولكم وأفهامكم واتجاهاتكم .
فى كل ذلك وغيره ، عبرة للمعتبرين وعظة للمتعظين .
ورحم الله صاحب الكشاف ، فقد قال عند تفسيره لهاتين الآيتين { وَفِي الأرض آيَاتٌ } تدل على الصانع وقدرته وحكمته وتدبيره ، حيث هى مدحوّة كالبساط . . . وفيها المسالك والفجاج للمتقلبين فيها ، والماشين فى مناكبها .
وهى مجزأة : فمن سهل وجبل ، وبر وبحر ، وقطع متجاورات : من صلبة ورخوة ، وطيبة وسبخة ، وهى كالطروقة تلقح بألوان النبات . . . وتسقى بماء واحد ، ونفضل بعضها على بعض فى الأكل ، وكلها موافقة لحوائج ساكنيها .
فى كل ذلك آيات { لِّلْمُوقِنِينَ } أى : للموحدين الذين سلكوا الطريق السوى . . . فازدادوا إيمانا على إيمانهم .
{ وفي أَنفُسِكُمْ } فى حال ابتدائها وتنقلها من حال إلى حال ، وفى بواطنها وظواهرها ، من عجائب الفطر . وبدائع الخلق ، ما تتحير فيه الأذهان ، وحسبك بالقلوب ، وما ركز فيها من العقول ، وخصت به من أصناف المعانى ، وبالألسن والنطق ومخارج الحروف ، وما فى تركيبها وترتيبها وطلائفها : من الآيات الدالة على حكمة المدبر .
. . فتبارك الله أحسن الخالقين .
ثم لفتة ثالثة للأنظار إلى الأسباب الظاهرة للرزق ، تراها فى قوله - تعالى - : { وَفِي السمآء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ } .
أى : أن أرزاقكم مقدرة مكتوبة عنده - سبحانه - وهى تنزل إليكم من جهة السماء ، عن طريق الأمطار التى تنزل على الأرض الجدباء . فتنبت بإذن الله من كل زوج بهيج .
كما قال - تعالى - : { هُوَ الذي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السمآء رِزْقاً } وقال - سبحانه - : { يُدَبِّرُ الأمر مِنَ السمآء إِلَى الأرض ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ } قال القرطبى : قوله : { وَفِي السمآء رِزْقُكُمْ } الرزق هنا : ما ينزل من السماء من مطر ينبت به الزرع ، ويحيى به الإنسان . . . أى : وفى السماء سبب رزقكم ، سمى المطر سماء لأنه من السماء ينزل .
وقال سفيان الثورى : { وَفِي السمآء رِزْقُكُمْ } أى : عند الله فى السماء رزقكم .
وقوله : { وَمَا تُوعَدُونَ } أى : وفى السماء محددة ومقدرة أرزاقكم . وما توعدون به من ثواب أو عقاب ، ومن خير أو شر ، ومن بعث وجزاء .
و { وَمَا } فى محل رفع عطف على قوله { رِزْقُكُمْ } أى : وفى السماء رزقكم والذى توعدونه من ثواب على الطاعة ، ومن عقاب على المعصية .
فالآية الكريمة وإن كانت تلفت الأنظار إلى أسباب الرزق وإلى مباشرة هذه الأسباب ، إلا أنها تذكر المؤمن بأن يكون اعتماده على خالق الأسباب ، وأن يراقبه ويطيعه فى السر والعلن لأنه - سبحانه - هو صاحب الخلق والأمر .
ثم ختم - سبحانه - هذه الآيات بهذا القَسَم فقال : { فَوَرَبِّ السمآء والأرض إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ } .
والضمير فى قوله { إِنَّهُ } يعود إلى ما سبق الإخبار عنه من أمر البعث والحساب والجزاء والرزق . . . وغير ذلك مما يدل على صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيما أخبر به عن ربه .
ولفظ " مثل " منصوب بنزع الخافض ، و " ما " مزيدة للتأكيد أى : فوحق رب السماء والأرض ، إن جميع ما ذكرناه لكم فى هذه السورة ، أو فى هذا القرآن ، حق ثابت لا مرية فيهن كمثل نطقكم الذى تنطقونه بألسنتكم دون أن تشكوا فى كونه قد صدر منكم لا عن غيركم .
فالمقصود بالآية الكريمة ، تأكيد صدق ما أخبر به الله - تعالى - عباده فى هذه السورة وغيرها ، لأن نطقهم بألسنتهم حقيقة لا يجادل فيها مجادل ، وكذلك ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - من عند ربه ، وما تلاه عليهم فى هذه السورة وغيرها ، حق ثابت لا ريب فيه .
وهكذا نرى هذه الآيات قد بشرت المتقين بألوان من البشارات ، ثم لفتت عقول الناس إلى ما فى الأرض وإلى ما فى أنفسهم وإلى ما فى السماء من عظات وعبر .
ثم انتقلت السورة الكريمة إلى الحديث عن قصص بعض الأنبياء السابقين فبدأت بجانب من قصة إبراهيم - عليه السلام - مع الملائكة الذين جاءوا لبشارته بابنه إسحاق ، فقال - تعالى - : { هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ . . . } .
هذه القصة التى تحكى لنا هنا ما دار بين إبراهيم - عليه السلام - وبين الملائكة الذين جاءوا لبشارته بابنه إسحاق ، ولإخباره بإهلاك قوم لوط ، قد وردت قبل ذلك فى سورتى هود والحجر .
وقد افتتحت هنا بأسلوب الاستفهام { هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ المكرمين } للإشعار بأهمية هذه القصة ، وتفخيم شأنها ، وبأنها لا علم بها إلا عن طريق الوحى . . . وقيل إن هل هنا بمعنى قد .
والمعنى : هل أتاك - أيها الرسول الكريم - حديث ضيف إبراهيم المكرمين؟ إننا فيما أنزلناه عليك من قرآن كريم ، نقص عليك قصتهم بالحق الذى لا يحوم حوله باطل ، على سبيل التثبيت لك ، والتسلية لقلبك .
والضيف فى الأصل مصدر بمعنى الميل ، يقال ضاف فلان فلانا إذا مال كل واحد منهما نحو الآخر ، ويطلق على الواحد والجماعة . والمراد هنا : جماعة الملائكة الذين قدموا على إبراهيم - عليه السلام - وعلى رأسهم جبريل ، ووصفهم بأنهم كانوا مكرمين ، لإكرام الله - تعالى - لهم بطاعته وامتثال أمره . ولإكرام إبراهيم لهم ، حيث قدم لهم أشهى الأطعمة وأجودها .
قال الآلوسى : قيل : كانوا اثنى عشر ملكا وقيل : كانوا ثلاثة : جبريل وإسرافيل وميكائيل . وسموا ضيفا لأنهم كانوا فى صورة الضيف ، ولأن إبراهيم - عليه السلام - حسبهم كذلك ، فالتسمية على مقتضى الظاهر والحسبان .
وبدأ بقصة إبراهيم وإن كانت متأخرة عن قصة عاد ، لأنها أقوى فى غرض التسلية .
والظرف فى قوله : { إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ . . } متعلق بلفظ { حَدِيثُ } السابق .
أى : هل بلغك حديثهم الواقع فى وقت دخولهم عليه . . . أو بمحذوف تقديره : اذكر ، أى : اذكر وقت أن دخلوا عليه { عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلاَماً } ، أى : فقالوا نسلم عليك سلاما .
{ قَالَ سَلاَمٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ } أى : قال إبراهيم فى جوابه عليهم : عليكم سلام ، أنتم قوم منكرون أى : غير معروفين لى قبل ذلك .
قال صاحب الكشاف : أنكرهم للسلام الذى هو علم الإسلام ، أو أراد أنهم ليسوا من معارفه ، أو من جنس الناس الذين عهدهم . . . أو رأى لهم حالا وشكلا خلاف حال الناس وشكلهم ، أو كان هذا سؤالا لهم ، كأنه قال : أنتم قوم منكرون فعرفونى من أنتم . .
وقيل : إن إبراهيم قد قال ذلك فى نفسه ، والتقدير : هؤلاء قوم منكرون ، لأنه لم يرهم قبل ذلك .
وقال إبراهيم فى جوابه عليهم { سَلاَمٌ } بالرفع ، لإفادة الدوام والثبات عن طريق الجملة الاسمية ، التى تدل على ذلك ، وللإشارة إلى أدبه معهم ، حيث رد على تحيتهم بأفضل منها .
ثم بين - سبحانه - ما فعله إبراهيم بعد ذلك فقال : { فَرَاغَ إلى أَهْلِهِ فَجَآءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ } أى : فذهب إلى أهله فى خفية من ضيوفه . فجاء إليهم بعجل متلىء لحما وشحما . يقال : راغ فلان إلى كذا ، إذا مال إليه فى استخفاء وسرعة .
{ فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ } أى : فذهب إلى أهله فذبح عجلا وشواه ، فقر به إلى ضيوفه وقال لهم : { أَلاَ تَأْكُلُونَ } أى : حضهم على الأكل شأن المضيف الكريم . فقال لهم على سبيل التلطف وحسن العرض : ألا تأكلون من طعامى .
قال ابن كثير : وهذه الآيات انتظمت آداب الضيافة ، فإنه جاء بطعامه من حيث لا يشعرون بسرعة . ولم يمتن عليهم أولا فقال : نأتيكم بطعام؟ بل جاء به بسرعة وخفاء ، وأتى بأفضل ما وجد من ماله ، وهو عدل سمين مشوى فقربه إليهم ، لم يضعه وقال : اقتربوا ، بل وضعه بين أيديهم ، ولم يأمرهم أمرا يشق على سامعه بصيغة الجزم ، بل قال : { أَلاَ تَأْكُلُونَ } على سبيل العرض والتلطف ، كما يقول القائل اليوم : إن رأيت أن تتفضل وتحسن وتتصدق . فافعل .
ولكن إبراهيم مع هذا العرض الحسن ، والكرم الواضح ، لم يجد من ضيوفه استجابة لدعوته . { فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً } أى : فأضمر فى نفسه خوفا منهم حين رأى إعراضا عن طعامه ، مع حضهم على الأكل منه ، ومع جودة هذا الطعام .
وهنا كشف الملائكة له عن ذواتهم فقالوا { لاَ تَخَفْ } أى : لا تخف فإنا رسل الله { وَبَشَّرُوهُ بِغُلاَمٍ عَلَيمٍ } أى : وبشروه بغلام سيولد له ، وسيكون كثير العلم عندما يبلغ سن الرشد ، وهذا الغلام إسحاق - عليه السلام - .
ثم يحكى القرآن بعد ذلك ما كان من امرأته بعد أن سمعت بهذه البشرى فقال : { فَأَقْبَلَتِ امرأته فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ } .
أى : فأقبلت امرأة إبراهيم - عليه السلام - وهى تصيح فى تعجب واستغراب من هذه البشرى . فضربت بيدها على وجهها وقالت : أنا عجوز عقيم فكيف ألد؟
والصرة : من الصرير وهو الصوت ، ومنه صرير الباب ، أى : صوته ، والصك الضرب الشديد على الوجه ، وعادة ما تفعله النساء إذا تعجبن من شىء .
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - فى سورة هود : { قَالَتْ ياويلتى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ } وهنا رد عليها الملائكة بما يزيل تعجبها واستغرابها واستبعادها لأن يكون لها ولد مع كبر سنها ، ويحكى القرآن ذلك فيقول : { قَالُواْ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الحكيم العليم } .
أى : قال الملائكة لامرأة إبراهيم : لا تتعجبى من أن يكون لك غلام فى هذه السن ، فإن هذا الحكم هو حكم ربك . وهذا القول الذى بشرناك به هو قوله - سبحانه - وقوله لا مرد له : إنه - تعالى - هو الحكيم فى كل أقواله وأفعاله . العليم بأحوال خلقه .
وهنا عرف إبراهيم - عليه السلام - حقيقة ضيوفه : فأخذ يسألهم : { قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا المرسلون } والخطب : الأمر الهام ، والشأن الخطير ، وجمعه خطوب .
أى : قال لهم إبراهيم بعد أن اطمأن إليهم ، وعلم أنهم ملائكة . فما شأنكم الخطير الذى من أجله جئتم إلى أيها المرسلون بعد هذه البشارة؟
{ قالوا } فى الإجابة عليه ، { إِنَّآ أُرْسِلْنَآ } ، بأمر ربنا { إلى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ } قوم لوط { لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ } أى : لنرسل عليهم - بعد قلب قراهم - حجارة من طين متحجر ، حالة كون هذه الحجارة { مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ } أى : معلمة عند الله - تعالى - وفى علمه ، وقد أعدها - سبحانه - لرجم هؤلاء الذين أسرفوا فى عصيانهم له - تعالى - وأتوا بفاحشة لم يسبقهم إليها أحد من العاملين .
فقوله : { مُّسَوَّمَةً } حال من الحجارة ، والسُّومة : العلامة . ومنه قوله - تعالى - : { والخيل المسومة } والفاء فى قوله - تعالى - بعد ذلك : { فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ المؤمنين فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ المسلمين } هى الفصيحة ، لأنها قد أفصحت عن كلام محذوف .
والمعنى : ففارق الملائكة إبراهيم ذاهبين إلى قوم لوط لإهلاكهم وجرى بينهم وبين لوط - عليه السلام - ما جرى ثم أخذوا فى تنفيذ ما كلفناهم به ، فأخرجنا - بفضلنا ورحمتنا - من كان فى قرية لوط من المؤمنين دون أن يمسهم عذابنا ، فما وجدنا فى تلك القرية غير أهل بيت واحد من المسلمين ، أما بقية سكان هذه القرية فقد دمرناهم تدميرا .
ووصف - سبحانه - الناجين من العذاب - وهم لوط وأهل بيته إلا امرأته - بصفتى الإيمان والإسلام ، على سبيل المدح لهم ، أى : أنهم كانوا مصدقين بقلوبهم ، ومنقادين لأحكام الله - تعالى - بجوارحهم .
قال ابن كثير : احتج بهاتين الآيتين من ذهب إلى رأى المعتزلة ، ممن لا يفرقون بين معنى الإيمان ، والإسلام ، لأنه أطلق عليهم المؤمنين والمسلمين وهذا الاستدلال ضعيف ، لأن هؤلاء كانوا قوما مؤمنين ، وعندنا أن كل مؤمن مسلم ولا ينعكس ، فاتفق الاسمان هنا لخصوصية الحال ، ولا يلزم ذلك فى كل حال .
ثم بين - سبحانه - أنه قد ترك من وراء هلاكهم ما يدعو غيرههم إلى الاعتبار بهم فقال : { وَتَرَكْنَا فِيهَآ } أى : فى قرية قوم لوط التى جعل الملائكة عاليها سافلها { آيَةً } أى : علامة تدل على ما أصابهم من هلاك ، قيل : هى تلك الأحجار التى أهلكوا بها .
وهذه الآية إنما هى { لِّلَّذِينَ يَخَافُونَ العذاب الأليم } لأنهم هم الذين يعتبرون وينتفعون بها ، أما غيرهم من الذين استحوذ عليهم الشيطان ، فإن هذه الآيات لا تزيدهم إلا رجسا على رجسهم .
ثم تحدثت السورة بعد ذلك عن جانب من قصص موسى وهود وصالح ونوح . - عليهم السلام - فقال - سبحانه - : { وَفِي موسى إِذْ . . } .
قوله - سبحانه - : { وَفِي موسى } معطوف على قوله - تعالى - قبل ذلك ( وَتَرَكْنَا فِيهَآ ) والكلام على حذف مضاف .
والظرف فى قوله : { إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ } . متعلق بمحذوف هو نعت لقوله ( آيَةً ) قبل ذلك .
أى : وتركنا فى قصة موسى - أيضا - أى ، هذه الآية كائنة وقت أن أرسلناه إلى فرعون { بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ } أى : بمعجزة واضحة بينة هى اليد والعصا وغيرهما .
وقوله - سبحانه - : { فتولى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ } بيان لموقف فرعون من موسى - عليه السلام - أى : أرسلنا موسى بآياتنا الدالة على صدقه إلى فرعون وملئه ، فما كان من فرعون إلا أن أعرض عن دعوة الحق ، وتعاظم على موسى بملكه وجنوده وقوته . . . وقال فى شأن موسى - عليه السلام - هو ساحر أو مجنون .
والركن جانب البدن . والمراد به هنا : جنوده الذين يركن إليهم ، وقوته التى اغتر بها .
قال الآلوسى : قوله : { فتولى بِرُكْنِهِ } أى : فأعرض عن الإيمان بموسى ، على أن ركنه جانب بدنه وعطفه ، والتولى به كناية عن الإعراض ، والباء للتعدية ، لأن معناه : ثنى عطفه .
وقال قتادة : تولى بقومه على أن الركن بمعنى القوم ، لأنه يركن إليهم ويتقوى بهم ، والباء للمصاحبة أو الملابسة . . . وقيل : تولى بقوته وسلطانه . فالركن يستعار للقوة .
ثم بين - سبحانه - نتيجة إعراض فرعون عن الحق فقال : { فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي اليم وَهُوَ مُلِيمٌ } .
والنبذ : الطرح للشىء بدون اكتراث أو اهتمام به ، و قوله { مُلِيمٌ } من ألام ، إذا أتى ما يلام عليه ، كأغرب إذا أتى أمرا غريبا ، وجملة ، وهو مليم ، حال من المفعول فى قوله { فَأَخَذْنَاهُ } .
أى : فأخذنا فرعون هو وجنوده الذين ارتكن إليهم أخذ عزيز مقتدر ، فألقينا بهم جميعا فى البحر بدون اعتداد بهم ، بعد أن أتى فرعون بما يلام عليه من الكفر والطغيان .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : كيف وصف نبى الله يونس - عليه السلام - بما وصف به فرعون فى قوله - تعالى - : { فالتقمه الحوت وَهُوَ مُلِيمٌ } قلت : موجبات اللوم تختلف ، وعلى حسب اختلافها تختلف مقادير اللوم ، فراكب الكبيرة ملوم على مقدارها ، وكذلك مقترف الصغيرة . ألا ترى إلى قوله - تعالى - : { وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ } وقوله { وعصى ءَادَمُ رَبَّهُ فغوى } لأن الكبيرة والصغيرة يجمعهما اسم العصيان ، كما يجمعهما اسم القبيح والسيئة .
ثم تنتقل السورة بعد ذلك إلى بيان ما حل بقوم هود - عليه السلام - فتقول : { وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الريح العقيم مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كالرميم } .
أى : وتركنا فى قصة عاد - أيضا - وهم قوم هود - عليه السلام - آية وعبرة ، وقت أن أرسلنا عليهم الريح العقيم .
أى : الريح الشديدة التى لا خير فيها من إنشاء مطر ، أو تلقيح شجر ، وهى ريح الهلاك وأصل العقم : اليبس المانع من قبول الأثر .
شبه - سبحانه - الريح التى أهلكتهم وقطعت دابرهم ، بالمرأة التى انقطع نسلها ، بجامع انعدام الأثر فى كل .
ثم وصف - سبحانه - هذه الريح التى توهموا أنها تحمل لهم الخير ، بينما هى تحمل لهم الهلاك ، وصفها بقوله : { مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ } أى : ما تترك من شىء مرت عليه .
{ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كالرميم } أى : إلا جعلته كالشىء الميت الذى رم وتحول إلى فتات مأخوذ من رم الشىء إذا تفتت وتهشم . ويقال للنبات إذا يبس وتفتت : رميم وهشيم .
كما يقال للعظم إذا تكسر وبَلِىَ : رميم . ومنه قوله - تعالى - : { قَالَ مَن يُحيِي العظام وَهِيَ رَمِيمٌ } ثم انتقلت السورة بعد ذلك إلى بيان ما حل بقوم صالح - عليه السلام - فقال - تعالى - : { وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُواْ حتى حِينٍ } .
أى : وتركنا - كذلك - فى قصة صالح - عليه السلام - مع قومه آية وعظة ، وقت أن قال لهم - على سبيل الإنذار والتحذير من المداومة على الكفر . . . تمتعوا بحياتكم التى تعيشونها فى هذه الدنيا ، حتى وقت معين فى علم الله - تعالى - تنتهى عنده أعماركم .
وهذا التمتع بالحياة حتى حين ، يحتمل أن المقصود به ، ما أشار إليه - سبحانه - فى سورة هود بقوله : { فَعَقَرُوهَا } - أى الناقة - { فَقَالَ تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ذلك وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ } ويحتمل أن يكون المقصود به : ما قدره الله - تعالى - من عمر منذ أن بلغهم صالح رسالة ربه إلى أن عقروا الناقة ، وحق عليهم العذاب .
قال القرطبى : قوله : { وَفِي ثَمُودَ } أى : وفيهم - أيضا - عبرة وعظة ، حين قيل لهم عيشوا متمتعين بالدنيا { حتى حِينٍ } أى : إلى وقت الهلاك وهو ثلاثة أيام ، كما فى سورة هود . . . وقيل : معنى { تَمَتَّعُواْ } أى : أسلموا وتمتعوا إلى وقت فراغ آجالكم .
ثم بين - سبحانه - ما كان منهم من كفر وفجور فقال : { فَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ } أى : فتكبروا واستهانوا بما أمرهم الله - تعالى - به على لسان نبيهم صالح - عليه السلام - .
{ فَأَخَذَتْهُمُ الصاعقة } وهى كل عذاب مهلك ، من الصعق بمعنى الإهلاك .
{ وَهُمْ يَنظُرُونَ } أى : وهم يرونها عيانا ، لأن العذاب - كما تشير الآية - نزل بهم نهارا .
{ فَمَا استطاعوا مِن قِيَامٍ وَمَا كَانُواْ مُنتَصِرِينَ } أى : أنه حين نزل بهم عذابنا ، أعجزهم عن الحركة ، وشل حواسهم ، فما استطاعوا أن يهربوا منه . وما قدروا على القيام بعد أن كانوا قاعدين ، وما نصرهم من بأسنا ناصر .
ثم ختم - سبحانه - هذه الآيات بلمحة عن قصة نوح - عليه السلام - فقال { وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ } أى : وأهلكنا قوم نوح من قبل هؤلاء جميعا بالطوفان .
{ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ } أى : خارجين عن طاعتنا ، منغمسين فى الكفر والعصيان .
وهكذا ساقت السورة الكريمة جانبا من قصص هؤلاء الأنبياء ، ليكون فى ذلك تسلية للنبى - صلى الله عليه وسلم - وتذكرة للمتذكرين .
وبعد هذا الحديث عن هؤلاء الأقوام . . . جاء الحديث عن مظاهر قدرة الله - تعالى - وسعة رحمته ، ووافر نعمه ، وحض الناس على شكره - تعالى - وطاعته . فقال - عز وجل - : { والسمآء . . } .
لفظ { السمآء . . . } منصوب على الاشتغال . أى : وبنينا السماء بنيناها { بِأَييْدٍ } أى : بقوة وقدرة . يقال : آد الرجل يئيد - كباع - إذا اشتد وقوى .
{ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ } أى : وإنا لقادرون على توسعتها بتلك الصورة العجيبة من الوصع بمعنى القدرة والطاقة ، يقال : أوسع الرجل ، أى : صار ذات سعة ، والمفعول محذوف ، أى : وإنا لموسعون السماء ، أو الأرزاق .
فالجملة تصوير بديع لمظاهر قدرة الله ، وكمال قوته ، وواسع فضله .
{ والأرض فَرَشْنَاهَا } أى : وفرشنا الأرض بقدرتنا - أيضا - ، بأن مهدناها وبسطناها وجعلناها صالحة لمنفعتكم وراحتكم .
{ فَنِعْمَ الماهدون } نحن ، يقال : مهدت الفراش ، إذا بسطته ووطأته وحسنته .
وفى هاتين الآيتين ما فيهما من الدلالة على قدرة الله - تعالى - ورحمته بعباده ، حيث أوجد هذه السماء الواسعة التى تعتبر الأرض بما فيها كحلقة فى فلاة بالنسبة لها ، فهى تحوى مئات الملايين من النجوم المتناثرة فى أرجائها . . . . وأوجد - سبحانه - الأرض لتكون موطنا للإنسان ، ومنزلا لراحته .
ثم قال - تعالى - : { وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ } أى : نوعين متقابلين كالذكر والأنثى . والليل والنهار ، والسماء والأرض ، والغنى والفقر ، والهدى والضلال .
{ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } أى فعلنا ذلك لعلكم تعتبرون وتتعظون وتتذكرون ما يجب عليكم نحونا من الشكر والطاعة وإخلاص العبادة لنا وحدنا .
والفاء فى قوله : { ففروا إِلَى الله . . . } للتفريع على قوله - تعالى - { لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } ، أى : ما دام الأمر كما ذكرت لكم من وجود التذكر والاعتبار ، ففروا إلى الله من معصيته إلى طاعته ، ومن كفره إلى شكره ، ومن السيئات إلى الحسنات .
قال الإمام الرازى ما ملخصه : وفى هذا التعبير لطائف؛ لأنه ينبىء عن سرعة الإهلاء ، كأنه يقول : الاهلاك والعذاب أسرع وأقرب ، من أن يحتمل الحال الإبطاء فى الرجوع . فافزعوا سريعا إلى الله - تعالى - وفروا إلى طاعته ، فإنه لا مهرب منه .
وقوله : { إِنِّي لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } تعليل للأمر بالفرار ، أى : أسرعوا إلى طاعة الله - تعالى - إنى لكم من عقابه المعد لمن يصر على معصيته نذير بَيّن الإنذار .
ثم أكد - سبحانه - هذا الإنذار ، ونهى عن التقاعس فقال : { وَلاَ تَجْعَلُواْ مَعَ الله إلها آخَرَ } أى : واحذروا أن تجعلوا مع الله - تعالى - إلها آخر ، فى العبادة أو الطاعة { إِنِّي لَكُمْ مِّنْهُ } { نَذِيرٌ مُّبِينٌ } .
فالآية الأولى كان التعليل فيها للأمر بالفرار إلى الله - تعالى - والثانية كان التعليل فيها للنهى عن الإشراك به - سبحانه - .
وبذلك ترى أن هذه الآيات الكريمة ، قد بينت جانبا من الدلائل على قدرة الله - تعالى - وأمرت الناس بإخلاص العبادة لله ، ونهت عن الإشراك به .
ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة ، ببيان مواقف الأقوام من رسلهم ، وببيان الوظيفة التى أوجد الله - تعالى - الناس من أجلها فقال : { كَذَلِكَ مَآ . . } .
قوله : { كَذَلِكَ } خبر لمبتدأ محذوف . أى : الأمر كذلك ، واسم الإشارة مشار به إلى الكلام الذى سيتلوه ، إذ أن ما بعده وهو قوله : { مَآ أَتَى الذين مِن قَبْلِهِمْ مِّن رَّسُولٍ } تفسير له . أى : الأمر - أيها الرسول الكريم - كما نخبرك ، من أنه ما أتى الأقوام الذين قبل قومك من رسول يدعوهم إلى عبادتنا وطاعتنا ، إلا قالوا له - كما قال قومك فى شأنك - هو - ساحر أو مجنون .
والمقصود بالآية الكريمة تسلية الرسول - صلى الله عليه وسلم - عما أصابه من مشركى قريش ، حيث بين له - سبحانه - أن الرسل السابقين قد كذبتهم أممهم ، فصبروا حتى أتاهم نصره - سبحانه - .
ثم أضاف - سبحانه - إلى هذه التسلية تسلية أخرى فقال : { أَتَوَاصَوْاْ بِهِ } ؟ والضمير المجرور يعود إلى القول المذكور ، والاستفهام للتعجيب من أحوالهم . أى : أوصى السابقون اللاحقين أن يقولوا لكل رسول يأتيهم من ربهم . أنت - أيها الرسول - ساحر أو مجنون؟
وقوله - سبحانه - : { بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ } إضراب عن تواصيهم إضراب إبطال ، لأنهم لم يجمعهم زمان واحد حتى يوصى بعضهم بعضا ، وإنما الذى جمعهم تشابه القلوب ، والالتقاء على الكفر والفسوق والعصيان .
أى : أوصى بعضهم بعضا بهذا القول القبيح؟ كلا لم يوص بعضهم بعضا لأنهم لم يتلاقوا ، وإنما تشابهت قلوبهم ، فاتحدث ألسنتهم فى هذا القول المنكر .
ثم تسلية ثالثة نراها فى قوله - تعالى - : { فَتَوَلَّ عَنْهُمْ } أى : فأعرض عنهم وعن جدالهم ، وسر فى طريقك الذى رسمه الحكيم الخبير لك .
{ فَمَآ أَنتَ } أيها الرسول الكريم - { بِمَلُومٍ } على الإعراض عنهم ، وما أنت بمعاتب منا على ترك مجادلتهم .
{ وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذكرى تَنفَعُ المؤمنين } أى : أعرض عن هؤلاء المشركين ، وداوم على التذكير والتبشير والإنذار مهما تقول المتقولون ، فإن التذكير بما أوحيناه إليك من هدايات سامية ، وآداب حكيمة . . . ينفع المؤمنين ، ولا ينفع غيرهم من الجاحدين .
ثم بين - سبحانه - الوظيفة التى من أجلها أوجد الله - تعالى - الجن والإنس فقال : { وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } .
وللعلماء فى تفسير هذه الآية أقوال منها : أن معناها : إنى ما أوجدت الجن والإنس إلا وهم مهيئون لعبادتى وطاعتى . بسبب ما ركبت فيهم من عقول تعقل ، وبسبب ما أرسلت إليهم من رسل يهدونهم إلى الخير ، فمنهم من أطاع الرسل ، وجرى ما مقتضى ما تقتضيه الفطرة ، فآمن بالرسل ، واتبع الحق والرشد ، ففاز وسعد ، ومنهم من أعرض عن دعوة الرسل ، وعاند فطرته وموجب استعداده فخسر وخاب .
ومنهم من يرى أن معناها : إنى ما خلقت الجن والإنس إلا ليقروا لى بالعبودية طوعا أو كرها ، لأن المؤمن يطيع باختياره ، والكافر مذعن منقاد لقضاء ربه ، كما فى قوله - تعالى - :
{ وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السماوات والأرض طَوْعاً وَكَرْهاً } ومنهم من يرى معناها : إنى ما خلقت الجن والإنس إلا ليعرفونى .
قال القرطبى ما ملخصه : قوله - تعالى - : { وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } قيل : إن هذا خاص فيمن سبق فى علم الله أنه يعبده . فجاء بلفظ العموم ومعناه الخصوص . . . فالآية فى المؤمنين منهم .
وقال على - رضى الله عنه - : أى : وما خلقت الجن والإنس إلا لآمرهم بعبادتى قال - تعالى - { وَمَآ أمروا إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين حُنَفَآءَ } وقيل : { إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } أى : إلا ليقروا لى بالعبادة طوعا أو كرها .
ويبدو لنا أن أرجح هذه الأقوال هو ما أشرنا إليه أولا ، من أن معنى الآية الكريمة ، أن الله - تعالى - قد خلق الثقلين لعبادته وطاعته ، ولكن منهم من أطاعة - سبحانه - ، ومنهم من عصاه . لاستحواذ الشيطان عليه .
قال الإمام ابن كثير بعد أن ذكر جملة من الأقوال : ومعنى الآية أنه - تعالى - خلق العباد ليعبدوه وحده لا شريك له ، فمن أطاعه جازاه أتم الجزاء ، ومن عصاه عذبه أشد العذاب .
وفى الحديث القدسى : قال الله - عز وجل - " يا بن آدم ، تفرغ لعبادتى أملأ صدرك غنى ، وأسد فقرك ، وإلا تفعل ملأت صدرك شغلا ، ولم أسد فقرك . . " .
وفى بعض الكتب الإلهية . يقول الله - تعالى - " يابن آدم ، خلقتك لعبادتى فلا تلعب ، وتكفلت برزقك فلا تتعب ، فاطلبنى تجدنى . فإن وجدتنى وجدت كل شىء ، وإن فتك فاتك كل شىء ، وأنا أحب إليك من كل شىء " .
ثم بين - سبحانه - أنه غنى عن العالمين فقال : { مَآ أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ } أى : ما أريد منهم منفعة أو رزقا كما يريد الناس بعضهم من بعض . . . وما أريد منهم طعاما ولا شرابا ، فأنا الذى أطِعم ولا أطَعم كما قال - سبحانه - : { قُلْ أَغَيْرَ الله أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السماوات والأرض وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ } قال الآلوسى : والآية لبيان أن شأنه - تعالى - مع عباده ليس كشأن السادة مع عبيدهم ، لأنهم إنما يملكونهم ليستعينوا بهم فى تحصيل معايشهم وأرزاقهم ، ومالك العبيد نفى أن يكون ملكه إياهم لذلك ، فكانه - سبحانه - يقول : ما أريد أن أستعين بهم ، كما يستعين ملاك العبيد بعبيدهم ، فليشتغلوا بما خلقوا له من عبادتى .
ثم بين - سبحانه - أنه هو صاحب القوة والرزق فقال : { إِنَّ الله هُوَ الرزاق ذُو القوة المتين } أى : إن الله - تعالى - هو الرزاق لغيره دون أحد سواه ، وهو - سبحانه - صاحب القوة التى لا تشبهها قوة ، وهو المتين أى : الشديد القوة - أيضا - فهو صفة للرزاق ، أو لقوله : { ذُو } ، أو خبر مبتدأ محذوف .
وهو مأخوذ من المتانة بمعنى القوة الفائقة .
ثم بين - سبحانه - سوء عاقبة الظالمين فقال : { فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذَنُوباً مِّثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلاَ يَسْتَعْجِلُونِ } .
والذَّنُوب فى الأصل : الدلو العظيمة المملوءة ماء ، ولا يقال لها ذنوب إذا كانت فارغة . وجمعها ذَنَائِب ، كقلوص وقلائص ، وكانوا يستسقون الماء فيقسمونه بينهم على الأنصباء . فيكون لهذا ذنوب ، ولهذا ذنوب . فالمراد بالذنوب هنا : النصيب ، والمعنى : فإن للذين ظلموا أنفسهم بعبادتهم لغير الله ، وبظلمهم لغيرهم ، نصيبا من العذاب ، مثل نصيب نظرائهم فى الظلم والكفر ، فلا يستعجلون عذابى ، فإنه نازل بهم فى الوقت الذى أريد .
{ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن يَوْمِهِمُ الذي يُوعَدُونَ } أى : فهلاك للذين كفروا ، هذا الهلاك سيكون فى اليوم الذى توعدتهم بالهلاك فيه ، والذى هو نازل بهم بلا ريب أو شك ، وبعد : فهذا تفسير لسورة " الذاريات " ، نسأل الله - تعالى - أن يجعله خالصا لوجهه ، ونافعا لعباده .
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
كما جاء في تفسير فضيلة الامام سيد طنطاوي شيخ الازهر الشريف
نسألكم بصالح الدعاء
تفسير سورة الذاريات
المراد بالذاريات : الرياح التى تذرو الشىء ، أى تسوقه وتحركه وتنقله من مكانه .
فهذا اللفظ اسم فاعل من ذرا المعتل ، بمعنى فرَّق وبدّد . ومنه قوله - تعالى - : { واضرب لَهُم مَّثَلَ الحياة الدنيا كَمَآءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السماء فاختلط بِهِ نَبَاتُ الأرض فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرياح . . . } أى : تنقله وتحركه من مكان إلى آخر .
والمفعول محذوف ، و " ذروا " مصدر مؤكد ، وناصبه لفظ الذاريات ، أى : وحق الرياح التى تذروا التراب وغيره ذروا ، وتحركه تحريكا شديدا .
والمراد بالحاملات : السحب التى تحمل الأمطار الثقيلة ، فتسير بها من مكان إلى آخر .
والوقر - بكسر الواو - كالحمل وزنا ومعنى ، وهو مفعول به .
أى : فالسحب الحاملات للأمطار الثقيلة ، وللمياه الغزيرة ، التى تنزل على الأرض اليابسة ، فتحولها - بقدرة الله - تعالى - إلى أرض خضراء .
وهذا الوصف للسحاب بأنه يحمل الأمطار الثقيلة ، قد جاء ما يؤيده من الآيات القرآنية ، ومن ذلك قوله - تعالى - : { وَهُوَ الذي يُرْسِلُ الرياح بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حتى إِذَآ أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ . . . } وقوله - سبحانه - : { هُوَ الذي يُرِيكُمُ البرق خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِىءُ السحاب الثقال } والمراد بالجاريات : السفن التى تجرى فى البحر ، فتنقل الناس وأمتعتهم من بلد إلى بلد .
وقوله : { يُسْراً } صفة لمصدر محذوف بتقدير مضاف ، أى : فالجاريات بقدرة الله - تعالى - فى البحر جريا ذات يسر وسهولة ، إلى حيث يسيرها ربانها .
ويصح أن يكون قوله { يُسْراً } حال . أى : فالجاريات فى حال كونها ميسرة مسخرا لها البحر .
ومن الآيات التى تشبه فى معناها هذه الآية قوله - تعالى - : { وَمِنْ آيَاتِهِ الجوار فِي البحر كالأعلام } والمراد بالمقسمات فى قوله - سبحانه - { فالمقسمات أَمْراً } الملائكة ، فإنهم يقسمون أرزاق العباد وأمورهم وشئونهم . . . على حسب ما يكلفهم الله - تعالى - به من شئون مختلفة .
و { أَمْراً } مفعول به ، للوصف الذى هو المقسمات ، وهو مفرد أريد به الجمع ، أى : المقسمات لأمور العباد بأمر الله - تعالى - وإرادته .
وهذا التفسير لتلك الألفاظ ، قد ورد عن بعض الصحابة ، فعن أبى الطفيل أنه سمع عليا - رضى الله عنه - يقول - وهو على منبر الكوفة - : لا تسألونى عن آية فى كتاب الله ، ولا عن سنة رسول الله ، إلا أنبأتكم بذلك ، فقام إليه ابن الكواء فقال : يا أمير المؤمنين . ما معنى قوله - تعالى - : { والذاريات ذَرْواً } قال : الريح . { فالجاريات يُسْراً } قال : السفن ، { فالمقسمات أَمْراً } قال : الملائكة .
ومن العلماء من يرى أن هذه الألفاظ جميعها صفات للرياح .
قال الإمام الرازى : هذه صفات أربع للرياح ، فالذاريات : هى الرياح التى تنشىء السحاب أولا . والحاملات : هى الرياح التى تحمل السحب التى هى بخار الماء . . . والجاريات : هى الرياح التى تجرى بالسحب بعد حملها . والمقسمات : هى الرياح التى تفرق الأمطار على الأقطار .
ومع وجاهة رأى الإمام الرازى فى هذه المسألة ، إلا أننا نؤثر عليه الرأى السابق ، لأنه ثابت عن بعض الصحابة ، ولأن كون هذه الألفاظ الأربعة لها معان مختلفة ، أدل على قدرة الله - تعالى - وعلى فضله على عباده .
وقد تركنا أقوالا ظاهرة الضعف والسقوط . كقول بعضهم : الذاريات هن النساء ، فإنهن يذرين الأولاد ، بمعنى أنهن يأتين بالأولاد بعضهم فى إثر بعض ، كما تنقل الرياح الشىء من مكان إلى مكان .
قال الآلوسى : ثم إذا حملت هذه الصفات على أمور مختلفة متغايرة بالذات - كما هو الرأى المعول عليه - فالفاء للترتيب فى الأقسام ذكرا ورتبة ، باعتبار تفاوت مراتبها فى الدلالة على كمال قدرته - عز وجل - وهذا التفاوت إما على الترقى أو التنزل ، لما فى كل منها من الصفات التى تجعلها أعلى من وجه وأدنى من آخر .
وإن حملت على واحد وهو الرياح ، فهى لترتيب الأفعال والصفات ، إذ الريح تذرو الأبخرة إلى الجو أولا ، حتى تنعقد سحابا ، فتحمله ثانيا ، وتجرى به ثالثا ناشرة وسائقة له إلى حيث أمرها الله - تعالى - ثم تقسم أمطاره .
وقوله : { إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ } جواب القسم . و " ما " موصولة والعائد محذوف ، والوصف بمعنى المصدر . أى : وحق هذه الأشياء التى ذكرتها لكم إن الذى توعدونه من الجزاء والحساب والبعث . . . لصدق لا يحوم حوله كذب أوشك .
ويجوز أن تكون " ما " مصدرية . أى : إن الوعد بالبعث والجزاء والحساب لصادق .
وقوله : { وَإِنَّ الدين لَوَاقِعٌ } تأكيد وتقريرلما قبله . أى : وإن الجزاء على الأعمال لواقع وقوعا لا ريب فيه . فالمراد بالدين هنا : الجزاء ، كما فى قوله - سبحانه - { يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ الله دِينَهُمُ الحق } ومنه قولهم : " كما تدين تدان " أى : كما تعمل تجازى ، ومعنى وقوعه : حصوله .
ثم أقسم - سبحانه - قسما آخر بالسماء ذات الحبك فقال : { والسمآء ذَاتِ الحبك إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ } .
والحبك : جمع حَبِيكة ، كطريقة - وزنا ومعنى - ، أو جمع حِبَاك - كمُثُل ومِثَال - ، والحبيكة والحباك . الطريقة فى الرمل وما يشبهه . أى : وحق السماء ذات الطرق المتعددة ، والتى لا ترونها بأعينكم لبعدها عنكم .
ويرى بعضهم أن معنى ذات الحبك : ذات الخَلْق الحسن المحكم . . . أو ذات الزينة والجمال .
قال القرطبى : وفى الحبك أقوال : الأول : قال : ابن عباس : ذات الخلْق الحسن المستوى يقال ، حبَك فلان الثوب يحبِكُه - بكسر الباء - إذا أجاد نسجه .
الثانى : ذات الزينة . الثالث : ذات النجوم ، الرابع : ذات الطرائق . ولكنها تبعد من العباد فلا يرونها . الخامس : ذات الشدة . .
وقوله : { إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ } جواب القسم . وقوله : { يُؤْفَكُ عَنْهُ . . . } من الأفْك - بفتح الهمزة وسكون الفاء - بمعنى الصرف للشىء عن وجهه الذى يجب أن يكون عليه .
والضمير فى " عنه " يعود إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - أو إلى القرآن الكريم .
فيكون المعنى : وحق السماء ذات الطرق المتعددة ، وذات الهيئة البديعة المحكمة الجميلة . . . إنكم - أيها المشركون - " لفى قول مختلف " أى : متناقض متخالف ، فمنكم من يقول عن القرآن الكريم أنه : أساطير الأولين ، ومنكم من يقول عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - : إنه ساحر أو مجنون .
والحق أنه يصرف عن الإيمان بهذا القرآن الكريم الذى جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - من صرفه الله - تعالى - عنه ، بسبب إيثاره الغى على الرشد ، والضلالة على الهداية ، والكفر على الإيمان .
والتعبير بقوله : { مَنْ أُفِكَ } للإشعار بأن هذا الشقى الذى آثر الكفر على الإيمان ، قد صرف عن الرشاد وعن الخير صرفا ، ليس هناك ما هو أشد منه فى سوء العاقبة .
فهذا التعبير شبيه فى التهويل بقوله - تعالى - : { فَغَشِيَهُمْ مِّنَ اليم مَا غَشِيَهُمْ } قال الجمل : { يُؤْفَكُ } يصرف { عَنْهُ } عن النبى - صلى الله عليه وسلم - والقرآن الكريم . أى : عن الإيمان به { مَنْ أُفِكَ } أى : من صرف عن الهداية فى علم الله - تعالى - .
وقيل : الضمير للقول المذكور ، أى : يرتد ، أى : يصرف عن هذا القول من صرف عنه فى علم الله - تعالى - وهم المؤمنون .
ثم بين - سبحانه - سوء عاقبة المكذبين فقال : { قُتِلَ الخراصون الذين هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدين يَوْمَ هُمْ عَلَى النار يُفْتَنُونَ } .
والخراصون : جمع خرَّاص ، وأصل الخَرْص : الظن والتخمين ، ومنه الخارص الذى يخرص النخلة ليقدر ما عليها من ثمر ، والمراد به هنا : الكذب ، لأنه ينشأ غالبا عن هذا الخرص ، والمراد بالآية الدعاء عليهم باللعن والطرد من رحمة الله - تعالى .
أى : لعن وطرد من رحمة الله - تعالى - هؤلاء الكذابون ، الذين قالوا فى الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما هو منزه عنه . . . والذين هم { فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ } أى : فى جهالة تغمرهم كما يغمر الماء الأرض . فهم ساهون وغافلون عن كل خير .
فالغمرة : ما يغمر الشىء ويستره ويغطيه ، ومنه قولهم : نهر غَمْر ، أى : يغمر من دخله .
والمراد : أنهم فى جهالة غامرة لقلوبهم . وفى غفلة تامة عما ينفعهم .
وهذا التعبير فيه ما فيه من تصوير ما هم عليه من جهالة وغفلة ، حيث يصورهم - سبحانه - وكأن ذلك قد أحاط بهم وغمرهم حتى لكأنهم لا يحسون بشىء مما حولهم .
ثم بين - سبحانه - ما كانوا عليه من سوء أدب فقال : { يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدين } .
و " أيان " بمعنى متى . أى : يسألون سؤال استهزاء واستخفاف فيقولون : متى يكون هذا البعث الذى تحدثنا عنه يا محمد ، ومتى يوم الجزاء والحساب الذى تهددنا به؟
وهنا يأتيهم الجواب الذى يردعهم ويبين لهم سوء مصيرهم . فيقول - سبحانه - : { يَوْمَ هُمْ عَلَى النار يُفْتَنُونَ } أى يقع هذا اليوم الذى تسألون عنه وهو يوم البعث والحساب والجزاء . . . يوم تحرقون بالنار - أيها الكافرون - ، وتعذبون فيها عذاب أليما .
و " يفتنون " مأخوذ من الفَتْنِ بمعنى الاختبار والامتحان ، يقال : فتَنْتُ الذهب بالنار ، إذا أذبته لتظهر جودته من غيرها . والمراد به هنا : الإحراق بالنار .
وعدى " يفتنون " بعلى ، لتضمنه معنى يعرضون ، أو على بمعنى فى .
وقوله : { ذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ . . } مقول القول محذوف .
أى : هذا اليوم الذى يسألون عنه واقع يوم الجزاء . . . يوم يقال لهم وهم معرضون على النار : ذوقوا العذاب المعد لكم ، أو ذوقوا سوء عاقبة كفركم .
{ هذا } العذاب المهين ، هو { الذي كُنتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ } فى الدنيا ، وتقولون - على سبيل الاستهزاء والإنكار - للنبى - صلى الله عليه وسلم - ولأصحابه : { متى هذا الوعد إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } وبذلك نرى الآيات الكريمة قد أكدت بأقوى الأساليب وأحكمها ، أن يوم البعث والجزاء والحساب حق ، وأن المكذبين بذلك سيذوقون أشد العذاب .
وكعادة القرآن الكريم فى قرن الترغيب بالترهيب أو العكس ، جاء الحديث عن حسن عاقبة المتقين بعد الحديث عن سوء مصير المكذبين فقال - سبحانه - : { إِنَّ المتقين فِي . . . } .
المعنى : { إِنَّ المتقين } وهم الذين صانوا أنفسهم عن كل مالا يرضى الله - تعالى - .
{ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ } أى : مستقرين فى جنات وبساتين فيها عيون عظيمة ، لا يبلغ وصفها الواصفون .
{ آخِذِينَ مَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ } أى : هم منعمون فى الجنات وما اشتملت عليه من عيون جارية ، حالة كونهم آخذين وقابلين لما أعطاهم ربهم من فضله وإحسانه .
وقوله : { إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ } بمثابة التعليل لما قبله . أى : هم فى هذا الخير العميم من ربهم لأنهم ، كانوا قبل ذلك - أى : فى الدنيا - محسنين لأعمالهم ، ومؤدين لكل ما أمرهم به - سبحانه - بإتقان وإخلاص .
ثم بين - سبحانه - مظاهر إحسانهم فقال : { كَانُواْ قَلِيلاً مِّن الليل مَا يَهْجَعُونَ } أى كانوا ينامون من الليل وقتا قليلا ، أما أكثره فكانوا يقضونه فى العبادة والطاعة .
والهجوع : النوم ليلا ، وقيده بعضهم بالنوم القليل ، إذ الهجعة هى النومة الخفيفة ، تقول : أتيت فلانا بعد هجعة ، أى بعد نومة قليلة .
عن الحسن قال : كانوا لا ينامون من الليل إلا أقله ، كابدوا قيام الليل .
ثم مدحهم - سبحانه - بصفة أخرى فقال : { وبالأسحار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } والأسحار جمع سحر ، وهو الجزء الأخير من الليل .
أى ، وكانوا فى أوقات الأسحار يرفعون أكف الضراعة إلى الله - تعالى - يستغفرونه مما فرط منهم من ذنوب ، ويلتمسون منه - تعالى - قبول توبتهم وغسل حوبتهم .
قال الإمام الرازى ما ملخصه : وفى الآية إشارة إلى أنهم كانوا يتهجدون ويجتهدون ، ثم يريدون أن يكون عملهم أكثر من ذلك ، وأخلص منه ، ويستغفرون من التقصير ، وهذه سيرة الكريم : يأتى بأبلغ وجوه الكرم ويستقله ، ويعتذر من التقصير ، واللئيم يأتى بالقليل ويستكثره .
وفيه وجه آخر ألطف منه : وهو أنه - تعالى - لما بين أنهم يهجعون قليلا ، والهجوع مقتضى الطبع . قال { يَسْتَغْفِرُونَ } أى : من ذلك القدر من النوم القليل .
ومدحهم بالهجوع ولم يمدحهم بكثرة السهر . . للإشارة إلى أن نومهم عبادة ، حيث مدحهم بكونهم هاجعين قليلا ، وذلك الهجوع أورثهم الاشتغال بعبادة أخرى ، وهو الاستغفار . . . فى وجوه الأسحار ، ومنعهم من الإعجاب بأنفسهم ومن الاستكبار .
ثم مدحهم - سبحانه - للمرة الثالثة فقال : { وفي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ والمحروم } .
والسائل : هو من يسأل غيره العون والمساعدة . والمحروم : هو المتعفف عن السؤال مع أنه لا مال له لحرمان أصابه ، بسبب مصيبة نزلت به ، أو فقر كان فيه . . . أو ما يشبه ذلك .
قال ابن جرير بعد أن ذكر جملة من الأقوال فى المراد من المحروم هنا . والصواب من القول فى ذلك عندى : أنه الذى قد حرم الرزق واحتاج ، وقد يكون ذلك بذهاب ماله وثمره فصار ممن حرمه الله .
وقد يكون بسبب تعففه وتركه المسألة . وقد يكون بأنه لا سهم له فى الغنيمة لغيبته عن الواقعة .
أى : أنهم بجانب قيامهم الليل طاعة لله - تعالى - واستغفارا لذنوبهم . . . يوجبون على أنفسهم فى أموالهم حقا للسائل والمحروم ، تقربا إلى الله - سبحانه - بمقتضى ما جبلوا عليه من كرم وسخاء .
فالمراد بالحق هنا : ما يقدمونه من أموال للمحتاجين على سبيل التطوع وليس المراد به الزكاة المفروضة ، لأن السورة مكية والزكاة إنما فرضت فى السنة الثانية من الهجرة .
قال الآلوسى : { وفي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ } هو غير الزكاة كما قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما .
وقال منذر بن سعيد : هذا الحق هو الزكاة المفروضة ، وتعقب بأن السورة مكية . وفرض الزكاة بالمدينة . وقيل : أصل فريضة الزكاة كان بمكة والذى كان بالمدينة القدر المعروف اليوم . . . . والجمهور على الأول .
والمتأمل فى هذه الآيات الكريمة يرى أن هؤلاء المتقين ، قد مدحهم الله - تعالى - هذا المدح العظيم ، لأنهم عرفوا حق الله عليهم فأدوه بإحسان وإخلاص ، وعرفوا حق الناس عليهم فقدموه بكرم وسخاء .
ثم لفت - سبحانه - الأنظار إلى ما فى الأرض من دلائل على قدرته ووحدانيته فقال : { وَفِي الأرض آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ } . أى : وفى الأرض آيات عظيمة وعبر وعظات بليغة ، تدل على وحدانية الله وقدرته ، كصنوف النبات ، والحيوانات ، والمهاد ، والجبال ، والقفار ، والأنهار ، والبحار . وهذه الآيات والعبر لا ينتفع بها إلا الموقنون بأن المستحق للعبادة إنما هو الله - عز وجل - .
ثم لفتة أخرى إلى النفس البشرية ، قال - تعالى - : { وفي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ } .
أى : وفى أنفسكم وذواتكم وخلقكم . . . أفلا تبصرون إبصار تذكر واعتبار ، فإن فى خلقكم من سلالة من طين ، ثم جعلكم نطفة فعلقة فمضغة فخلقا آخر ، ثم فى رعايتكم فى بطون أمهاتكم . ثم فى تدرجكم من حال إلى حال ، ثم فى اختلاف ألسنتكم وألوانكم ، ثم فى التركيب العجيب الدقيق لأجسادكم وأعظائكم . ثم فى تفاوت عقولكم وأفهامكم واتجاهاتكم .
فى كل ذلك وغيره ، عبرة للمعتبرين وعظة للمتعظين .
ورحم الله صاحب الكشاف ، فقد قال عند تفسيره لهاتين الآيتين { وَفِي الأرض آيَاتٌ } تدل على الصانع وقدرته وحكمته وتدبيره ، حيث هى مدحوّة كالبساط . . . وفيها المسالك والفجاج للمتقلبين فيها ، والماشين فى مناكبها .
وهى مجزأة : فمن سهل وجبل ، وبر وبحر ، وقطع متجاورات : من صلبة ورخوة ، وطيبة وسبخة ، وهى كالطروقة تلقح بألوان النبات . . . وتسقى بماء واحد ، ونفضل بعضها على بعض فى الأكل ، وكلها موافقة لحوائج ساكنيها .
فى كل ذلك آيات { لِّلْمُوقِنِينَ } أى : للموحدين الذين سلكوا الطريق السوى . . . فازدادوا إيمانا على إيمانهم .
{ وفي أَنفُسِكُمْ } فى حال ابتدائها وتنقلها من حال إلى حال ، وفى بواطنها وظواهرها ، من عجائب الفطر . وبدائع الخلق ، ما تتحير فيه الأذهان ، وحسبك بالقلوب ، وما ركز فيها من العقول ، وخصت به من أصناف المعانى ، وبالألسن والنطق ومخارج الحروف ، وما فى تركيبها وترتيبها وطلائفها : من الآيات الدالة على حكمة المدبر .
. . فتبارك الله أحسن الخالقين .
ثم لفتة ثالثة للأنظار إلى الأسباب الظاهرة للرزق ، تراها فى قوله - تعالى - : { وَفِي السمآء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ } .
أى : أن أرزاقكم مقدرة مكتوبة عنده - سبحانه - وهى تنزل إليكم من جهة السماء ، عن طريق الأمطار التى تنزل على الأرض الجدباء . فتنبت بإذن الله من كل زوج بهيج .
كما قال - تعالى - : { هُوَ الذي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السمآء رِزْقاً } وقال - سبحانه - : { يُدَبِّرُ الأمر مِنَ السمآء إِلَى الأرض ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ } قال القرطبى : قوله : { وَفِي السمآء رِزْقُكُمْ } الرزق هنا : ما ينزل من السماء من مطر ينبت به الزرع ، ويحيى به الإنسان . . . أى : وفى السماء سبب رزقكم ، سمى المطر سماء لأنه من السماء ينزل .
وقال سفيان الثورى : { وَفِي السمآء رِزْقُكُمْ } أى : عند الله فى السماء رزقكم .
وقوله : { وَمَا تُوعَدُونَ } أى : وفى السماء محددة ومقدرة أرزاقكم . وما توعدون به من ثواب أو عقاب ، ومن خير أو شر ، ومن بعث وجزاء .
و { وَمَا } فى محل رفع عطف على قوله { رِزْقُكُمْ } أى : وفى السماء رزقكم والذى توعدونه من ثواب على الطاعة ، ومن عقاب على المعصية .
فالآية الكريمة وإن كانت تلفت الأنظار إلى أسباب الرزق وإلى مباشرة هذه الأسباب ، إلا أنها تذكر المؤمن بأن يكون اعتماده على خالق الأسباب ، وأن يراقبه ويطيعه فى السر والعلن لأنه - سبحانه - هو صاحب الخلق والأمر .
ثم ختم - سبحانه - هذه الآيات بهذا القَسَم فقال : { فَوَرَبِّ السمآء والأرض إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ } .
والضمير فى قوله { إِنَّهُ } يعود إلى ما سبق الإخبار عنه من أمر البعث والحساب والجزاء والرزق . . . وغير ذلك مما يدل على صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيما أخبر به عن ربه .
ولفظ " مثل " منصوب بنزع الخافض ، و " ما " مزيدة للتأكيد أى : فوحق رب السماء والأرض ، إن جميع ما ذكرناه لكم فى هذه السورة ، أو فى هذا القرآن ، حق ثابت لا مرية فيهن كمثل نطقكم الذى تنطقونه بألسنتكم دون أن تشكوا فى كونه قد صدر منكم لا عن غيركم .
فالمقصود بالآية الكريمة ، تأكيد صدق ما أخبر به الله - تعالى - عباده فى هذه السورة وغيرها ، لأن نطقهم بألسنتهم حقيقة لا يجادل فيها مجادل ، وكذلك ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - من عند ربه ، وما تلاه عليهم فى هذه السورة وغيرها ، حق ثابت لا ريب فيه .
وهكذا نرى هذه الآيات قد بشرت المتقين بألوان من البشارات ، ثم لفتت عقول الناس إلى ما فى الأرض وإلى ما فى أنفسهم وإلى ما فى السماء من عظات وعبر .
ثم انتقلت السورة الكريمة إلى الحديث عن قصص بعض الأنبياء السابقين فبدأت بجانب من قصة إبراهيم - عليه السلام - مع الملائكة الذين جاءوا لبشارته بابنه إسحاق ، فقال - تعالى - : { هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ . . . } .
هذه القصة التى تحكى لنا هنا ما دار بين إبراهيم - عليه السلام - وبين الملائكة الذين جاءوا لبشارته بابنه إسحاق ، ولإخباره بإهلاك قوم لوط ، قد وردت قبل ذلك فى سورتى هود والحجر .
وقد افتتحت هنا بأسلوب الاستفهام { هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ المكرمين } للإشعار بأهمية هذه القصة ، وتفخيم شأنها ، وبأنها لا علم بها إلا عن طريق الوحى . . . وقيل إن هل هنا بمعنى قد .
والمعنى : هل أتاك - أيها الرسول الكريم - حديث ضيف إبراهيم المكرمين؟ إننا فيما أنزلناه عليك من قرآن كريم ، نقص عليك قصتهم بالحق الذى لا يحوم حوله باطل ، على سبيل التثبيت لك ، والتسلية لقلبك .
والضيف فى الأصل مصدر بمعنى الميل ، يقال ضاف فلان فلانا إذا مال كل واحد منهما نحو الآخر ، ويطلق على الواحد والجماعة . والمراد هنا : جماعة الملائكة الذين قدموا على إبراهيم - عليه السلام - وعلى رأسهم جبريل ، ووصفهم بأنهم كانوا مكرمين ، لإكرام الله - تعالى - لهم بطاعته وامتثال أمره . ولإكرام إبراهيم لهم ، حيث قدم لهم أشهى الأطعمة وأجودها .
قال الآلوسى : قيل : كانوا اثنى عشر ملكا وقيل : كانوا ثلاثة : جبريل وإسرافيل وميكائيل . وسموا ضيفا لأنهم كانوا فى صورة الضيف ، ولأن إبراهيم - عليه السلام - حسبهم كذلك ، فالتسمية على مقتضى الظاهر والحسبان .
وبدأ بقصة إبراهيم وإن كانت متأخرة عن قصة عاد ، لأنها أقوى فى غرض التسلية .
والظرف فى قوله : { إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ . . } متعلق بلفظ { حَدِيثُ } السابق .
أى : هل بلغك حديثهم الواقع فى وقت دخولهم عليه . . . أو بمحذوف تقديره : اذكر ، أى : اذكر وقت أن دخلوا عليه { عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلاَماً } ، أى : فقالوا نسلم عليك سلاما .
{ قَالَ سَلاَمٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ } أى : قال إبراهيم فى جوابه عليهم : عليكم سلام ، أنتم قوم منكرون أى : غير معروفين لى قبل ذلك .
قال صاحب الكشاف : أنكرهم للسلام الذى هو علم الإسلام ، أو أراد أنهم ليسوا من معارفه ، أو من جنس الناس الذين عهدهم . . . أو رأى لهم حالا وشكلا خلاف حال الناس وشكلهم ، أو كان هذا سؤالا لهم ، كأنه قال : أنتم قوم منكرون فعرفونى من أنتم . .
وقيل : إن إبراهيم قد قال ذلك فى نفسه ، والتقدير : هؤلاء قوم منكرون ، لأنه لم يرهم قبل ذلك .
وقال إبراهيم فى جوابه عليهم { سَلاَمٌ } بالرفع ، لإفادة الدوام والثبات عن طريق الجملة الاسمية ، التى تدل على ذلك ، وللإشارة إلى أدبه معهم ، حيث رد على تحيتهم بأفضل منها .
ثم بين - سبحانه - ما فعله إبراهيم بعد ذلك فقال : { فَرَاغَ إلى أَهْلِهِ فَجَآءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ } أى : فذهب إلى أهله فى خفية من ضيوفه . فجاء إليهم بعجل متلىء لحما وشحما . يقال : راغ فلان إلى كذا ، إذا مال إليه فى استخفاء وسرعة .
{ فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ } أى : فذهب إلى أهله فذبح عجلا وشواه ، فقر به إلى ضيوفه وقال لهم : { أَلاَ تَأْكُلُونَ } أى : حضهم على الأكل شأن المضيف الكريم . فقال لهم على سبيل التلطف وحسن العرض : ألا تأكلون من طعامى .
قال ابن كثير : وهذه الآيات انتظمت آداب الضيافة ، فإنه جاء بطعامه من حيث لا يشعرون بسرعة . ولم يمتن عليهم أولا فقال : نأتيكم بطعام؟ بل جاء به بسرعة وخفاء ، وأتى بأفضل ما وجد من ماله ، وهو عدل سمين مشوى فقربه إليهم ، لم يضعه وقال : اقتربوا ، بل وضعه بين أيديهم ، ولم يأمرهم أمرا يشق على سامعه بصيغة الجزم ، بل قال : { أَلاَ تَأْكُلُونَ } على سبيل العرض والتلطف ، كما يقول القائل اليوم : إن رأيت أن تتفضل وتحسن وتتصدق . فافعل .
ولكن إبراهيم مع هذا العرض الحسن ، والكرم الواضح ، لم يجد من ضيوفه استجابة لدعوته . { فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً } أى : فأضمر فى نفسه خوفا منهم حين رأى إعراضا عن طعامه ، مع حضهم على الأكل منه ، ومع جودة هذا الطعام .
وهنا كشف الملائكة له عن ذواتهم فقالوا { لاَ تَخَفْ } أى : لا تخف فإنا رسل الله { وَبَشَّرُوهُ بِغُلاَمٍ عَلَيمٍ } أى : وبشروه بغلام سيولد له ، وسيكون كثير العلم عندما يبلغ سن الرشد ، وهذا الغلام إسحاق - عليه السلام - .
ثم يحكى القرآن بعد ذلك ما كان من امرأته بعد أن سمعت بهذه البشرى فقال : { فَأَقْبَلَتِ امرأته فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ } .
أى : فأقبلت امرأة إبراهيم - عليه السلام - وهى تصيح فى تعجب واستغراب من هذه البشرى . فضربت بيدها على وجهها وقالت : أنا عجوز عقيم فكيف ألد؟
والصرة : من الصرير وهو الصوت ، ومنه صرير الباب ، أى : صوته ، والصك الضرب الشديد على الوجه ، وعادة ما تفعله النساء إذا تعجبن من شىء .
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - فى سورة هود : { قَالَتْ ياويلتى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ } وهنا رد عليها الملائكة بما يزيل تعجبها واستغرابها واستبعادها لأن يكون لها ولد مع كبر سنها ، ويحكى القرآن ذلك فيقول : { قَالُواْ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الحكيم العليم } .
أى : قال الملائكة لامرأة إبراهيم : لا تتعجبى من أن يكون لك غلام فى هذه السن ، فإن هذا الحكم هو حكم ربك . وهذا القول الذى بشرناك به هو قوله - سبحانه - وقوله لا مرد له : إنه - تعالى - هو الحكيم فى كل أقواله وأفعاله . العليم بأحوال خلقه .
وهنا عرف إبراهيم - عليه السلام - حقيقة ضيوفه : فأخذ يسألهم : { قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا المرسلون } والخطب : الأمر الهام ، والشأن الخطير ، وجمعه خطوب .
أى : قال لهم إبراهيم بعد أن اطمأن إليهم ، وعلم أنهم ملائكة . فما شأنكم الخطير الذى من أجله جئتم إلى أيها المرسلون بعد هذه البشارة؟
{ قالوا } فى الإجابة عليه ، { إِنَّآ أُرْسِلْنَآ } ، بأمر ربنا { إلى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ } قوم لوط { لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ } أى : لنرسل عليهم - بعد قلب قراهم - حجارة من طين متحجر ، حالة كون هذه الحجارة { مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ } أى : معلمة عند الله - تعالى - وفى علمه ، وقد أعدها - سبحانه - لرجم هؤلاء الذين أسرفوا فى عصيانهم له - تعالى - وأتوا بفاحشة لم يسبقهم إليها أحد من العاملين .
فقوله : { مُّسَوَّمَةً } حال من الحجارة ، والسُّومة : العلامة . ومنه قوله - تعالى - : { والخيل المسومة } والفاء فى قوله - تعالى - بعد ذلك : { فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ المؤمنين فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ المسلمين } هى الفصيحة ، لأنها قد أفصحت عن كلام محذوف .
والمعنى : ففارق الملائكة إبراهيم ذاهبين إلى قوم لوط لإهلاكهم وجرى بينهم وبين لوط - عليه السلام - ما جرى ثم أخذوا فى تنفيذ ما كلفناهم به ، فأخرجنا - بفضلنا ورحمتنا - من كان فى قرية لوط من المؤمنين دون أن يمسهم عذابنا ، فما وجدنا فى تلك القرية غير أهل بيت واحد من المسلمين ، أما بقية سكان هذه القرية فقد دمرناهم تدميرا .
ووصف - سبحانه - الناجين من العذاب - وهم لوط وأهل بيته إلا امرأته - بصفتى الإيمان والإسلام ، على سبيل المدح لهم ، أى : أنهم كانوا مصدقين بقلوبهم ، ومنقادين لأحكام الله - تعالى - بجوارحهم .
قال ابن كثير : احتج بهاتين الآيتين من ذهب إلى رأى المعتزلة ، ممن لا يفرقون بين معنى الإيمان ، والإسلام ، لأنه أطلق عليهم المؤمنين والمسلمين وهذا الاستدلال ضعيف ، لأن هؤلاء كانوا قوما مؤمنين ، وعندنا أن كل مؤمن مسلم ولا ينعكس ، فاتفق الاسمان هنا لخصوصية الحال ، ولا يلزم ذلك فى كل حال .
ثم بين - سبحانه - أنه قد ترك من وراء هلاكهم ما يدعو غيرههم إلى الاعتبار بهم فقال : { وَتَرَكْنَا فِيهَآ } أى : فى قرية قوم لوط التى جعل الملائكة عاليها سافلها { آيَةً } أى : علامة تدل على ما أصابهم من هلاك ، قيل : هى تلك الأحجار التى أهلكوا بها .
وهذه الآية إنما هى { لِّلَّذِينَ يَخَافُونَ العذاب الأليم } لأنهم هم الذين يعتبرون وينتفعون بها ، أما غيرهم من الذين استحوذ عليهم الشيطان ، فإن هذه الآيات لا تزيدهم إلا رجسا على رجسهم .
ثم تحدثت السورة بعد ذلك عن جانب من قصص موسى وهود وصالح ونوح . - عليهم السلام - فقال - سبحانه - : { وَفِي موسى إِذْ . . } .
قوله - سبحانه - : { وَفِي موسى } معطوف على قوله - تعالى - قبل ذلك ( وَتَرَكْنَا فِيهَآ ) والكلام على حذف مضاف .
والظرف فى قوله : { إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ } . متعلق بمحذوف هو نعت لقوله ( آيَةً ) قبل ذلك .
أى : وتركنا فى قصة موسى - أيضا - أى ، هذه الآية كائنة وقت أن أرسلناه إلى فرعون { بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ } أى : بمعجزة واضحة بينة هى اليد والعصا وغيرهما .
وقوله - سبحانه - : { فتولى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ } بيان لموقف فرعون من موسى - عليه السلام - أى : أرسلنا موسى بآياتنا الدالة على صدقه إلى فرعون وملئه ، فما كان من فرعون إلا أن أعرض عن دعوة الحق ، وتعاظم على موسى بملكه وجنوده وقوته . . . وقال فى شأن موسى - عليه السلام - هو ساحر أو مجنون .
والركن جانب البدن . والمراد به هنا : جنوده الذين يركن إليهم ، وقوته التى اغتر بها .
قال الآلوسى : قوله : { فتولى بِرُكْنِهِ } أى : فأعرض عن الإيمان بموسى ، على أن ركنه جانب بدنه وعطفه ، والتولى به كناية عن الإعراض ، والباء للتعدية ، لأن معناه : ثنى عطفه .
وقال قتادة : تولى بقومه على أن الركن بمعنى القوم ، لأنه يركن إليهم ويتقوى بهم ، والباء للمصاحبة أو الملابسة . . . وقيل : تولى بقوته وسلطانه . فالركن يستعار للقوة .
ثم بين - سبحانه - نتيجة إعراض فرعون عن الحق فقال : { فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي اليم وَهُوَ مُلِيمٌ } .
والنبذ : الطرح للشىء بدون اكتراث أو اهتمام به ، و قوله { مُلِيمٌ } من ألام ، إذا أتى ما يلام عليه ، كأغرب إذا أتى أمرا غريبا ، وجملة ، وهو مليم ، حال من المفعول فى قوله { فَأَخَذْنَاهُ } .
أى : فأخذنا فرعون هو وجنوده الذين ارتكن إليهم أخذ عزيز مقتدر ، فألقينا بهم جميعا فى البحر بدون اعتداد بهم ، بعد أن أتى فرعون بما يلام عليه من الكفر والطغيان .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : كيف وصف نبى الله يونس - عليه السلام - بما وصف به فرعون فى قوله - تعالى - : { فالتقمه الحوت وَهُوَ مُلِيمٌ } قلت : موجبات اللوم تختلف ، وعلى حسب اختلافها تختلف مقادير اللوم ، فراكب الكبيرة ملوم على مقدارها ، وكذلك مقترف الصغيرة . ألا ترى إلى قوله - تعالى - : { وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ } وقوله { وعصى ءَادَمُ رَبَّهُ فغوى } لأن الكبيرة والصغيرة يجمعهما اسم العصيان ، كما يجمعهما اسم القبيح والسيئة .
ثم تنتقل السورة بعد ذلك إلى بيان ما حل بقوم هود - عليه السلام - فتقول : { وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الريح العقيم مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كالرميم } .
أى : وتركنا فى قصة عاد - أيضا - وهم قوم هود - عليه السلام - آية وعبرة ، وقت أن أرسلنا عليهم الريح العقيم .
أى : الريح الشديدة التى لا خير فيها من إنشاء مطر ، أو تلقيح شجر ، وهى ريح الهلاك وأصل العقم : اليبس المانع من قبول الأثر .
شبه - سبحانه - الريح التى أهلكتهم وقطعت دابرهم ، بالمرأة التى انقطع نسلها ، بجامع انعدام الأثر فى كل .
ثم وصف - سبحانه - هذه الريح التى توهموا أنها تحمل لهم الخير ، بينما هى تحمل لهم الهلاك ، وصفها بقوله : { مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ } أى : ما تترك من شىء مرت عليه .
{ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كالرميم } أى : إلا جعلته كالشىء الميت الذى رم وتحول إلى فتات مأخوذ من رم الشىء إذا تفتت وتهشم . ويقال للنبات إذا يبس وتفتت : رميم وهشيم .
كما يقال للعظم إذا تكسر وبَلِىَ : رميم . ومنه قوله - تعالى - : { قَالَ مَن يُحيِي العظام وَهِيَ رَمِيمٌ } ثم انتقلت السورة بعد ذلك إلى بيان ما حل بقوم صالح - عليه السلام - فقال - تعالى - : { وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُواْ حتى حِينٍ } .
أى : وتركنا - كذلك - فى قصة صالح - عليه السلام - مع قومه آية وعظة ، وقت أن قال لهم - على سبيل الإنذار والتحذير من المداومة على الكفر . . . تمتعوا بحياتكم التى تعيشونها فى هذه الدنيا ، حتى وقت معين فى علم الله - تعالى - تنتهى عنده أعماركم .
وهذا التمتع بالحياة حتى حين ، يحتمل أن المقصود به ، ما أشار إليه - سبحانه - فى سورة هود بقوله : { فَعَقَرُوهَا } - أى الناقة - { فَقَالَ تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ذلك وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ } ويحتمل أن يكون المقصود به : ما قدره الله - تعالى - من عمر منذ أن بلغهم صالح رسالة ربه إلى أن عقروا الناقة ، وحق عليهم العذاب .
قال القرطبى : قوله : { وَفِي ثَمُودَ } أى : وفيهم - أيضا - عبرة وعظة ، حين قيل لهم عيشوا متمتعين بالدنيا { حتى حِينٍ } أى : إلى وقت الهلاك وهو ثلاثة أيام ، كما فى سورة هود . . . وقيل : معنى { تَمَتَّعُواْ } أى : أسلموا وتمتعوا إلى وقت فراغ آجالكم .
ثم بين - سبحانه - ما كان منهم من كفر وفجور فقال : { فَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ } أى : فتكبروا واستهانوا بما أمرهم الله - تعالى - به على لسان نبيهم صالح - عليه السلام - .
{ فَأَخَذَتْهُمُ الصاعقة } وهى كل عذاب مهلك ، من الصعق بمعنى الإهلاك .
{ وَهُمْ يَنظُرُونَ } أى : وهم يرونها عيانا ، لأن العذاب - كما تشير الآية - نزل بهم نهارا .
{ فَمَا استطاعوا مِن قِيَامٍ وَمَا كَانُواْ مُنتَصِرِينَ } أى : أنه حين نزل بهم عذابنا ، أعجزهم عن الحركة ، وشل حواسهم ، فما استطاعوا أن يهربوا منه . وما قدروا على القيام بعد أن كانوا قاعدين ، وما نصرهم من بأسنا ناصر .
ثم ختم - سبحانه - هذه الآيات بلمحة عن قصة نوح - عليه السلام - فقال { وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ } أى : وأهلكنا قوم نوح من قبل هؤلاء جميعا بالطوفان .
{ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ } أى : خارجين عن طاعتنا ، منغمسين فى الكفر والعصيان .
وهكذا ساقت السورة الكريمة جانبا من قصص هؤلاء الأنبياء ، ليكون فى ذلك تسلية للنبى - صلى الله عليه وسلم - وتذكرة للمتذكرين .
وبعد هذا الحديث عن هؤلاء الأقوام . . . جاء الحديث عن مظاهر قدرة الله - تعالى - وسعة رحمته ، ووافر نعمه ، وحض الناس على شكره - تعالى - وطاعته . فقال - عز وجل - : { والسمآء . . } .
لفظ { السمآء . . . } منصوب على الاشتغال . أى : وبنينا السماء بنيناها { بِأَييْدٍ } أى : بقوة وقدرة . يقال : آد الرجل يئيد - كباع - إذا اشتد وقوى .
{ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ } أى : وإنا لقادرون على توسعتها بتلك الصورة العجيبة من الوصع بمعنى القدرة والطاقة ، يقال : أوسع الرجل ، أى : صار ذات سعة ، والمفعول محذوف ، أى : وإنا لموسعون السماء ، أو الأرزاق .
فالجملة تصوير بديع لمظاهر قدرة الله ، وكمال قوته ، وواسع فضله .
{ والأرض فَرَشْنَاهَا } أى : وفرشنا الأرض بقدرتنا - أيضا - ، بأن مهدناها وبسطناها وجعلناها صالحة لمنفعتكم وراحتكم .
{ فَنِعْمَ الماهدون } نحن ، يقال : مهدت الفراش ، إذا بسطته ووطأته وحسنته .
وفى هاتين الآيتين ما فيهما من الدلالة على قدرة الله - تعالى - ورحمته بعباده ، حيث أوجد هذه السماء الواسعة التى تعتبر الأرض بما فيها كحلقة فى فلاة بالنسبة لها ، فهى تحوى مئات الملايين من النجوم المتناثرة فى أرجائها . . . . وأوجد - سبحانه - الأرض لتكون موطنا للإنسان ، ومنزلا لراحته .
ثم قال - تعالى - : { وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ } أى : نوعين متقابلين كالذكر والأنثى . والليل والنهار ، والسماء والأرض ، والغنى والفقر ، والهدى والضلال .
{ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } أى فعلنا ذلك لعلكم تعتبرون وتتعظون وتتذكرون ما يجب عليكم نحونا من الشكر والطاعة وإخلاص العبادة لنا وحدنا .
والفاء فى قوله : { ففروا إِلَى الله . . . } للتفريع على قوله - تعالى - { لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } ، أى : ما دام الأمر كما ذكرت لكم من وجود التذكر والاعتبار ، ففروا إلى الله من معصيته إلى طاعته ، ومن كفره إلى شكره ، ومن السيئات إلى الحسنات .
قال الإمام الرازى ما ملخصه : وفى هذا التعبير لطائف؛ لأنه ينبىء عن سرعة الإهلاء ، كأنه يقول : الاهلاك والعذاب أسرع وأقرب ، من أن يحتمل الحال الإبطاء فى الرجوع . فافزعوا سريعا إلى الله - تعالى - وفروا إلى طاعته ، فإنه لا مهرب منه .
وقوله : { إِنِّي لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } تعليل للأمر بالفرار ، أى : أسرعوا إلى طاعة الله - تعالى - إنى لكم من عقابه المعد لمن يصر على معصيته نذير بَيّن الإنذار .
ثم أكد - سبحانه - هذا الإنذار ، ونهى عن التقاعس فقال : { وَلاَ تَجْعَلُواْ مَعَ الله إلها آخَرَ } أى : واحذروا أن تجعلوا مع الله - تعالى - إلها آخر ، فى العبادة أو الطاعة { إِنِّي لَكُمْ مِّنْهُ } { نَذِيرٌ مُّبِينٌ } .
فالآية الأولى كان التعليل فيها للأمر بالفرار إلى الله - تعالى - والثانية كان التعليل فيها للنهى عن الإشراك به - سبحانه - .
وبذلك ترى أن هذه الآيات الكريمة ، قد بينت جانبا من الدلائل على قدرة الله - تعالى - وأمرت الناس بإخلاص العبادة لله ، ونهت عن الإشراك به .
ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة ، ببيان مواقف الأقوام من رسلهم ، وببيان الوظيفة التى أوجد الله - تعالى - الناس من أجلها فقال : { كَذَلِكَ مَآ . . } .
قوله : { كَذَلِكَ } خبر لمبتدأ محذوف . أى : الأمر كذلك ، واسم الإشارة مشار به إلى الكلام الذى سيتلوه ، إذ أن ما بعده وهو قوله : { مَآ أَتَى الذين مِن قَبْلِهِمْ مِّن رَّسُولٍ } تفسير له . أى : الأمر - أيها الرسول الكريم - كما نخبرك ، من أنه ما أتى الأقوام الذين قبل قومك من رسول يدعوهم إلى عبادتنا وطاعتنا ، إلا قالوا له - كما قال قومك فى شأنك - هو - ساحر أو مجنون .
والمقصود بالآية الكريمة تسلية الرسول - صلى الله عليه وسلم - عما أصابه من مشركى قريش ، حيث بين له - سبحانه - أن الرسل السابقين قد كذبتهم أممهم ، فصبروا حتى أتاهم نصره - سبحانه - .
ثم أضاف - سبحانه - إلى هذه التسلية تسلية أخرى فقال : { أَتَوَاصَوْاْ بِهِ } ؟ والضمير المجرور يعود إلى القول المذكور ، والاستفهام للتعجيب من أحوالهم . أى : أوصى السابقون اللاحقين أن يقولوا لكل رسول يأتيهم من ربهم . أنت - أيها الرسول - ساحر أو مجنون؟
وقوله - سبحانه - : { بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ } إضراب عن تواصيهم إضراب إبطال ، لأنهم لم يجمعهم زمان واحد حتى يوصى بعضهم بعضا ، وإنما الذى جمعهم تشابه القلوب ، والالتقاء على الكفر والفسوق والعصيان .
أى : أوصى بعضهم بعضا بهذا القول القبيح؟ كلا لم يوص بعضهم بعضا لأنهم لم يتلاقوا ، وإنما تشابهت قلوبهم ، فاتحدث ألسنتهم فى هذا القول المنكر .
ثم تسلية ثالثة نراها فى قوله - تعالى - : { فَتَوَلَّ عَنْهُمْ } أى : فأعرض عنهم وعن جدالهم ، وسر فى طريقك الذى رسمه الحكيم الخبير لك .
{ فَمَآ أَنتَ } أيها الرسول الكريم - { بِمَلُومٍ } على الإعراض عنهم ، وما أنت بمعاتب منا على ترك مجادلتهم .
{ وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذكرى تَنفَعُ المؤمنين } أى : أعرض عن هؤلاء المشركين ، وداوم على التذكير والتبشير والإنذار مهما تقول المتقولون ، فإن التذكير بما أوحيناه إليك من هدايات سامية ، وآداب حكيمة . . . ينفع المؤمنين ، ولا ينفع غيرهم من الجاحدين .
ثم بين - سبحانه - الوظيفة التى من أجلها أوجد الله - تعالى - الجن والإنس فقال : { وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } .
وللعلماء فى تفسير هذه الآية أقوال منها : أن معناها : إنى ما أوجدت الجن والإنس إلا وهم مهيئون لعبادتى وطاعتى . بسبب ما ركبت فيهم من عقول تعقل ، وبسبب ما أرسلت إليهم من رسل يهدونهم إلى الخير ، فمنهم من أطاع الرسل ، وجرى ما مقتضى ما تقتضيه الفطرة ، فآمن بالرسل ، واتبع الحق والرشد ، ففاز وسعد ، ومنهم من أعرض عن دعوة الرسل ، وعاند فطرته وموجب استعداده فخسر وخاب .
ومنهم من يرى أن معناها : إنى ما خلقت الجن والإنس إلا ليقروا لى بالعبودية طوعا أو كرها ، لأن المؤمن يطيع باختياره ، والكافر مذعن منقاد لقضاء ربه ، كما فى قوله - تعالى - :
{ وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السماوات والأرض طَوْعاً وَكَرْهاً } ومنهم من يرى معناها : إنى ما خلقت الجن والإنس إلا ليعرفونى .
قال القرطبى ما ملخصه : قوله - تعالى - : { وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } قيل : إن هذا خاص فيمن سبق فى علم الله أنه يعبده . فجاء بلفظ العموم ومعناه الخصوص . . . فالآية فى المؤمنين منهم .
وقال على - رضى الله عنه - : أى : وما خلقت الجن والإنس إلا لآمرهم بعبادتى قال - تعالى - { وَمَآ أمروا إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين حُنَفَآءَ } وقيل : { إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } أى : إلا ليقروا لى بالعبادة طوعا أو كرها .
ويبدو لنا أن أرجح هذه الأقوال هو ما أشرنا إليه أولا ، من أن معنى الآية الكريمة ، أن الله - تعالى - قد خلق الثقلين لعبادته وطاعته ، ولكن منهم من أطاعة - سبحانه - ، ومنهم من عصاه . لاستحواذ الشيطان عليه .
قال الإمام ابن كثير بعد أن ذكر جملة من الأقوال : ومعنى الآية أنه - تعالى - خلق العباد ليعبدوه وحده لا شريك له ، فمن أطاعه جازاه أتم الجزاء ، ومن عصاه عذبه أشد العذاب .
وفى الحديث القدسى : قال الله - عز وجل - " يا بن آدم ، تفرغ لعبادتى أملأ صدرك غنى ، وأسد فقرك ، وإلا تفعل ملأت صدرك شغلا ، ولم أسد فقرك . . " .
وفى بعض الكتب الإلهية . يقول الله - تعالى - " يابن آدم ، خلقتك لعبادتى فلا تلعب ، وتكفلت برزقك فلا تتعب ، فاطلبنى تجدنى . فإن وجدتنى وجدت كل شىء ، وإن فتك فاتك كل شىء ، وأنا أحب إليك من كل شىء " .
ثم بين - سبحانه - أنه غنى عن العالمين فقال : { مَآ أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ } أى : ما أريد منهم منفعة أو رزقا كما يريد الناس بعضهم من بعض . . . وما أريد منهم طعاما ولا شرابا ، فأنا الذى أطِعم ولا أطَعم كما قال - سبحانه - : { قُلْ أَغَيْرَ الله أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السماوات والأرض وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ } قال الآلوسى : والآية لبيان أن شأنه - تعالى - مع عباده ليس كشأن السادة مع عبيدهم ، لأنهم إنما يملكونهم ليستعينوا بهم فى تحصيل معايشهم وأرزاقهم ، ومالك العبيد نفى أن يكون ملكه إياهم لذلك ، فكانه - سبحانه - يقول : ما أريد أن أستعين بهم ، كما يستعين ملاك العبيد بعبيدهم ، فليشتغلوا بما خلقوا له من عبادتى .
ثم بين - سبحانه - أنه هو صاحب القوة والرزق فقال : { إِنَّ الله هُوَ الرزاق ذُو القوة المتين } أى : إن الله - تعالى - هو الرزاق لغيره دون أحد سواه ، وهو - سبحانه - صاحب القوة التى لا تشبهها قوة ، وهو المتين أى : الشديد القوة - أيضا - فهو صفة للرزاق ، أو لقوله : { ذُو } ، أو خبر مبتدأ محذوف .
وهو مأخوذ من المتانة بمعنى القوة الفائقة .
ثم بين - سبحانه - سوء عاقبة الظالمين فقال : { فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذَنُوباً مِّثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلاَ يَسْتَعْجِلُونِ } .
والذَّنُوب فى الأصل : الدلو العظيمة المملوءة ماء ، ولا يقال لها ذنوب إذا كانت فارغة . وجمعها ذَنَائِب ، كقلوص وقلائص ، وكانوا يستسقون الماء فيقسمونه بينهم على الأنصباء . فيكون لهذا ذنوب ، ولهذا ذنوب . فالمراد بالذنوب هنا : النصيب ، والمعنى : فإن للذين ظلموا أنفسهم بعبادتهم لغير الله ، وبظلمهم لغيرهم ، نصيبا من العذاب ، مثل نصيب نظرائهم فى الظلم والكفر ، فلا يستعجلون عذابى ، فإنه نازل بهم فى الوقت الذى أريد .
{ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن يَوْمِهِمُ الذي يُوعَدُونَ } أى : فهلاك للذين كفروا ، هذا الهلاك سيكون فى اليوم الذى توعدتهم بالهلاك فيه ، والذى هو نازل بهم بلا ريب أو شك ، وبعد : فهذا تفسير لسورة " الذاريات " ، نسأل الله - تعالى - أن يجعله خالصا لوجهه ، ونافعا لعباده .
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
كما جاء في تفسير فضيلة الامام سيد طنطاوي شيخ الازهر الشريف
نسألكم بصالح الدعاء
admin2- عدد المساهمات : 190
تاريخ التسجيل : 19/09/2012
العمر : 32
مواضيع مماثلة
» تفسير سورة " ق "
» تفسير سورة محمد
» تفسير سورة " الفتح " الثالث الثانوي
» تفسير الفاتحة الجزء الاول - تفسير للشعراوى
» تفسير سورة محمد
» تفسير سورة " الفتح " الثالث الثانوي
» تفسير الفاتحة الجزء الاول - تفسير للشعراوى
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى